كان خضر واثقا بان هذه السيارة العسكرية قد اتت لابعادهم عن الوطن، وليس لنقلهم الى مكتب الحاكم العسكري. لقد كان يتساءل بينه وبين نفسه: "يا تُرى، لو لم يكن الامرُ مدبّرا لابعادنا، فما الحاجة لإحضار والدتي وزوجتي واولادي وزجّنا جميعا في هذه السيارة العسكرية، بحراسة ثلة من الجنود؟ تساؤلات خضر هذه، وصوت هدير السيارة بعد تصليحها، رفعَ منسوبَ التوتر لدى خضر الى اعلى مستوياته، وبلغت تخوفاته حدَّها الاقصى. لكن هذه المخاوف سرعان ما تبددت عندما راى خضر ان السيارة تتحرك فعلا باتجاه مركز شرطة ترشيحا، كما شعر باطمئنان كبير عندما قابلهم مساعدُ الحاكم وقدّم اليهم يدا بيد، تصاريح إقامة مؤقتة في البلاد، ريثما يُبَتُّ في امرهم، كما طلب من خضر ان يحضر بعد اسبوع لمقابلة الحاكم العسكري.
عندما عاد خضر بعد اسبوع لمقابلة الحاكم العسكري، كان قد استعرض بينه وبين نفسه، جميع السيناريوهات المحتملة: فمن إبعادٍ فوري الى تمديد الاقامة المؤقتة او الى تكليفه بمهمة استخبارية كما حدث مع آخرين. كان خضر قد بلور موقفا واضحا من كل هذه الامور، إذ بمدى ما كان يدرك ان لا حيلة لاسرته إلا ان ترضخ مكرهة لاي قرار يتعلق بالإقامةِ تمديدا او إنهاءً، كان قد حسمَ موقفَه بانه لن يكون مُخبِرا مهما كلفه الامر...استعداداتُ خضرٍ هذه، سرعان ما تبين انها لم تكن كافية، بدليل انها لم تسعفه لمجابهة المفاجاة الكبيرة التي انطوت عليها المقابلة. لقد فوجيء عندما بلّغه الحاكم العسكري الذي كان يتكلم اللغة العربية بطلاقة وبلهجة مقدسية كان خضر قد الفها اثناء دراسته في الكلية الراشدية في القدس، بانَّ طلبه لاقامةٍ دائمة في البلاد، ما زال قيد البحث لدى السلطات العسكرية وقد يستغرق هذا عدة اشهر، مضيفا (وهو يقلّب اوراق ملفٍ سميك موضوعٍ امامه على الطاولة) كمن يقدّم نصيحةً "اخوية" لخضر: "لمّا كنتُ اعرف انك تعيش حاليا اوضاعا مادية حرجة، فانا على استعداد ان احصّل لك تعويضاتٍ مالية عن الاملاك الكثيرة التي كانت لديك في جورة الذهب..". فهِمَ خضر انّ املاكَه في جورة الذهب قد باتت مصادرةً، والا فما معنى "الاملاك التي كانت لديك" وما معنى "تعويضات"؟! ومع ذلك، فلقد اراد ان "يلحق العيّارالى باب الدار" وان يسأل "سعادته" عمّا يعنيه بهذين التعبيرين، كما اراد ان يقول للحاكم العسكري ان من يصادر اراضيه لا يستطيع باي حال من الاحوال، ان يصادر حقه وارادته بالتمسك بهذه الاراضي التي كان وما زال يملكها...لكنه سرعان ما ادرك أنَّ سيف الإبعاد عن الوطن ما زال مسلّطا فوق عنقه واعناق افراد اسرته، وان عليه ان لا يثير نقمة الحاكم العسكري وما لها من اسقاطات سلبية على طلب الاقامة الدائمة. شعر ان خنجرا يُغمَد في صدره. سكت وكأن الكلمات قد تجمّدت في حلقه.
لم يدرك الحاكم كُنهَ سكوتِ خضر، فظنَّ خطأ ان حديثه قد وجد له موقعا في نفس خضر عملا بالمثل القائل :"ان السكوت ثلثا الموافقة "، فمدّ يده اليسرى الى درج طاولته ليخرج من هناك تصريحا خطيا جاهزا يخوّلُ خضرا حرية التنقل خارج "البلد" ليبحث عن عمل يوفر له دخلا يعيل به اسرته. تمعّن الحاكم بالتصريح قبل ان يسلمه الى خضر، وكأنه يقرأه للمرة الاولى، ثم مدَّ يده اليمنى مصافحا بينما كانت اليسرى تقدِّم التصريح الى خضر الذي شعر ان الحاكم يريد ان يضفي جوّا احتفاليا على الموقف وكأنه رئيس جامعة يسلم شهادة لاحد الخريجين. قرر خضر ان يجاري الحاكم العسكري، فتقنَّعَ بابتسامة مفتعلة وهو يمد يده لتسلم التصريح من يد الحاكم العسكري الذي ما لبث ان قال له في نهاية المقابلة: "لا تنسَ يا خضر اقتراحي بشأن التعويضات".. كان خضر، وقد تذكر مصطلح "ديبلوماسية الجزرة والعصا" اي الثواب والعقاب، يدرك جيدا ان منحه مثل هذا التصريح الذي يبدو الان "جزرةً " معدَّةً لاغرائه بقبول عرض الحاكم العسكري بشأن التعويضات، قد يصبح في المستقبل، ربما غير البعيد، هو "العصا" التي ينهال بها الحاكم العسكري على رأسه إنْ رفضَ التعويضات.
هذا القلق من المستقبل الذي كان يراود ذهن خضر، كان اضعف من ان يطفيء لديه جذوة امله في البقاء والاستقرار في الوطن، عملا بمقولة: "ما اضيق العيش لولا فسحة الامل" التي طالما دأب على ترديدها في الازمات متذكرا استاذَ الادب العربي في الكلية الرشيدية ومفاخرتَه بقصيدة "لامية العجم للطغرائي".. خصوصا وان "فسحة الامل" تلك حتى وإن كانت ضيقة فعلا، إلا انها كانت في نظر خضر، تتسع للمراهنة على عنصر الزمن.. لقد كان خضر على قناعة بان مرور الوقت هو لصالحه بمعنى انه كلما مرَّ وقتٌ اكثر على وجودهم، هو واسرته، في الوطن، كانت احتمالات بقائهم اوفر وكأنهم اغراس زيتون جليلي يزداد تجذّرُها بازدياد عدد ايام غرسها. وكما ان الاغراس بحاجة الى تربةٍ تحتضنُها وماء يرويها، فلقد كان خضر يدرك جيدا ان اسرته بحاجة الى منزل تستقر فيه بمفردها والى دخْلٍ يعيلها في معيشتها، فسارع بعد مغادرة مكتب الحاكم العسكري وعودته الى "البلد"، الى البحث عن مسكن وعمل. لكنه سرعان ما اكتشف ان الحصول على هذين المطلبين الاساسيين لم يكن آنذاك امرا يسيرا بسبب قلة، إن لم يكن ندرة، البيوت المعروضة للإيجار من جهة، وشحّة فرص العمل من جهة اخرى. هذه العقبات تمَّ تذليلها بوحي من الحكمة التي تقول: "إذا لم يكن لك ما تريد، فارد ما يكون"، فرضيَ خضرٌ بالبيت الوحيد الذي توفر له وبفرصة العمل الوحيدة التي كانت متاحة.
لقد كان البيت المتوفر بيتا قديما مهجورا بعيدا عن الصيانة. فمصطبتُه الطينية متآكلة ومليئة بالحفر، وسقفه القائم على اربع قناطر قد بدا اضعفَ من ان يمنع الدلف (اي تسرب مياه الامطار عبره)، نظرا لكثرة الشقوق في السطح. اما العمل فكان لدى مقاول يجمع المحاصيل الزراعية كالتبغ والتين والزيتون وغيرها التي كان اصحابها قد تركوها وراءهم يوم هُجِّروا من قراهم، والتي عبر عنها فيما بعد الشاعر محمود درويش بقوله: "لو يذكر الزيتونُ غارسَه لصارَ الزيتُ دمعا"... وهكذا وجد خضر نفسه امام تحديين متلازمين ومتكاملين: المواظبة على عمله لدى المقاول والاسراع في ترميم البيت. فكان هو اولَ من يصل الى سيارة الشحن المتهالكة التي كانت تنقل العمال، كما كان يحرص يوميا على استغلال ما تبقى من النهار، بعد يوم عمل مضن، لكي يعمل الى جانب زوجته في رشق جدران البيت بالكلس الابيض المطعَّم بالنيلة، وفي تطيين (تجديد طين) مصطبته وسطحه وتدليكهما بزيت العكر، كما كان عليه ان يصلح الباب الرئيسي للبيت وان يستبدل السُكّرة والرزّات، وان يقوم بغيرها من المهام والالتزامات التي يتطلبها استقرارُ اسرةٍ في ظل سقفٍ خاص بها، سيما بعد خيمةِ لجوءٍ مهين في لبنان، وبعد ضيافةٍ طال امدها في "البلد"،= فاضحت إثقالا على الخال عيسى واهل بيته.
يبدو ان تلك المهام والالتزامات الملحَّة، فضلا عن ساعات العمل الطويلة مع المقاول، قد استحوذت على خضر فانستْهُ، وربما ساعدته ان ينسى ولو الى حين، اقتراحَ الحاكم العسكري بشأن التعويضات. لكن التبليغ الخطيّ الرسمي الذي وصله من مكتب الحاكم العسكري في ساعات ما بعد الظهر، جعله يهبط من جديد على ارض الواقع المهتزَّة تحت قدميه منذرةً إيّاه واسرته بإبعاد عن الوطن يعيده الى المخيم.. لم يذق خضر طعم النوم في تلك الليلة.. تقلّب في فراشه على شوك افكاره. كان يشعر انه ك"بالع الموسى" في المثل الشعبي، اي كمن بلع سكينا، إنْ تركَهُ سيفرمُ احشاءَه، وإنْ اخرجَه سيجرح بلعومَه ويقصُّ لسانه..
كان خضر على قناعة مطلقة وتصميم لا رجعة عنه، بانه لا يفرّط ولن يفرّط باملاكه في جورة الذهب، ولن يقبل تعويضا عنها. لكنه كان يفهم في الوقت ذاته، بان ثمن موقفه هذا قد يكون إبعادا عن الوطن، مما جعله يتساءل بينه وبين نفسه: "أمستعدٌ انا لدفع مثل هذا الثمن الباهظ جدا؟ وهل يحق لي اصلا ان اتلاعب بمصير والدتي وزوجتى واولادي، واعادتهم الى المخيم؟"،. كان عليه اذن ان يقرر قبل وصوله الى مكتب الحاكم العسكري: "هل يرفض التعويضات فيُبعَد عن الوطن، أم يقبل بها، فيضمن امرين في آن واحد: بقاءً في الوطن وانفراجا ماديا؟".
فماذا قرّر خضر؟ وماذا ترتب على قراره؟
والى اللقاء في الحلقة القادمة "هناك في جورة الذهب(6)"