خرجَ خضر من مكتب الحاكم العسكري متعَبا ممّا مرّ عليه ومُثقَلا بمسؤولية اتخاذ قرارٍ ذي تداعيات مصيرية عليه وعلى اسرته. كانت تتنازعه مشاعر شتّى ويُلحّ عليه ىسؤالٌ غير مهادن: "الاسبوع سيمرّ سريعا يا خضر. فبماذا ستجيب الحاكم؟ هل سترفض ايضا عرضَه الثاني كما رفضتَ العرضَ الاول؟ وهل باستطاعتك ان تتحمل ما سيترتب على ذلك من سحب تصريح التنقل الذي بدونه لن تجد عملا يوفّر قوتا لاسرتك، او حتى من رفضِ طلبك للإقامة الدائمة تمهيدا لإبعادك أنت واسرتك عن وطنكم؟ أم هل ستكونَ براغماتيا فتقبل العرضَ وتنال رضا الحاكم العسكري وكل ما ينطوي على ذلك من مغريات: حرية التنقل، وتوفّر الدخل والمسكن الجيد وضمان الاقامة الدائمة وغيرها من الحسنات؟".. فماذا قرّر خضر؟
لقد قرر ان يستشير بعض معارفه واصدقائه، فاستقى من احدهم معلومات مفادها ان صاحب الدار التي عُرضت عليه هو خالد ابو عزيز من ترشيحا، الذي اقتلعتْه النكبةُ كغيره من اللاجئين الفسطينين، ىسنة 1948 لترمي به في مخيم للجوء في جنوب لبنان، كما سمع (خضر) من آخَرين آراء مختلفة ونصائح متباينة. فمنهم من نصحة برفض عرض الحاكم العسكري لكونه ينطوي على بيع رسميّ لداره وبيارته في "جورة الذهب"، مقابل "تملّكٍ مزيفٍ زائلٍ يمنحُه محتلٌّ لا يملك الحقَّ لذلك"، ومنهم من شجّعه على قبول العرض قائلين له: "انت يا خضر ستكون الرابح في كلا الحالتين، اي اذا انسحب الجيش الاسرائيلي من الجليل، فكل لاجيء يعود الى ملكه الاصلي بما في ذلك لاجئو "جورة الذهب"، أمّا إن لم ينسحب فستبقى انت واسرتك في دارٍ رحبة مرممة"، ومنهم ايضا من حذّره من نقمة خالد ابوعزيز الذي لن يرضى قطعا بان تُباع داره حتى ولو كان البيع مغتصَبًا...
كثرة الاراء وتعدد الاقتراحات التي سمعها خضر على امتداد اسبوع كامل(اي المهلة التي منحه اياها الحاكم العسكري)، زادت من بلباله وحيرته فبدا كمَن فقَدَ بوصلةَ تفكيره فاضحى عاجزا عن صياغة جواب يعطيه غدا صباحا للحاكم العسكري، كما بدا ايضا كَمَن فقدَ كوابحَ قدرته على التكتم عمّا يعانيه من تردد رهيب، امام والدته المريضة، التي توسَّم بها دائما حكمةَ من علمتْه تجاربُ الدهر، فقرّر ان يصارحها بالامر ويسمع رأيها بالموضوع. فقالت له والدته ام برهوم بعد ان اصغت اليه بكامل انتباهها: " يا ابني، إذا مِلِكنا ما اسعدنا، فهل سيسعدنا مِلك غيرنا ؟!!". جواب ام برهوم هذا حسم الموقف ورجّحَ كفةَ الرفض لدى خضر فلم يتردد ان يقول للحاكم العسكري اثناء المقابلة معه، صباح اليوم التالي، انه لا يريد ان يستبدل مِلكا بمِلكٍ، ممّا اغاظ الحاكم العسكري الذي ىسارع الى إنهاء المقابلة معه، طالبا منه مغادرة المكتب. وقف خضر لكنّه لم يتحرك من موقعه وكانه تجمّد. كان نظره مصوّبا نحو ورقة التصريح التي بقيت رهينةً بيد الحاكم العسكري الذي قام بطيّها رويدا رويدا ووضعها في دُرجِ مكتبه، قائلا لخضر بنظرةٍ فيها مزيج من التشفّي والتحدّي: " عُد إليّ بعد شهرٍ من اليوم "...
خرج خضر من مكتب الحاكم العسكري بشعورين متناقضين، إذ بمدى ما كان راضيا عن نفسه لإتخاذه قراره النهائي بعدم التخلّي عن داره وبيارته في "جورة الذهب"، كان يلوم نفسه لكونه سيصبح عاطلا عن العمل بعد ان جمّدَ، ولربما الغى نهائيا، الحاكمُ العسكري تصريحَ تنقله، فافقدَه فرصةَ متابعةِ عمله مع المقاول خارج "البلد"، أو فرصةَ إيجاد أي عمل آخَر يوفّر له ولو حدّا أدنى من دخلٍ يعيل به اسرةً مؤلفة من ستة انفار. كان خضر يعلم تمام المعرفة ان فرص العمل داخل "البلد" غير متوفرة إطلاقا، كما كان يعرف ان لا سبيل للتهرّب من دوريات "الامن" المنتشرة على الشوارع، والتي تعتقل كلَّ من لا يحمل تصريح تنقُّلٍ، فلم يبق امامه سوى العمل بالتهريب، مستغِلا موقع "البلد" القريب جغرافيا من الحدود اللبنانية.
كان خضر يهرّب من "البلد" ومن قرى الجليل الغربي المجاورة، الدخانَ المفروم (دخان حلّ) الى القرى المحاذية للحدود في جنوب لبنان كقرية رميش وعين إبل وبنت جبيل وغيرها والى مخيمات اللاجئين الفلسطينين ايضا، سيما الى مخيم البصّ حيث كان يزور اخاه برهوم ويقضي في بيته يوما او يومين. كما كان يهرّب من جنوب لبنان قناني العرق وصفائح الكاز وعلب البهارات واكياس القهوة والهيل والصنوبر والسكر والأرزّ وبعض المؤن الاخرى التي لم تكن متوفرة آنذاك بسبب انظمة التقنين التي فرضها الجيش الاسرائيلي في تلك الفترة. كان خضر يحْمِلُ البضاعة المهرَّبة على ظهره، واحيانا يحمّلُها على ظهر حمار مُستأجَر، حيث ينطلق في منتصف الليل، شمالا نحو الحدود اللبنانية، ليعود من هناك تحت جنح الظلام ثانية، في الليلة التالية او بعدها، مكرّرا هذه الرحلة المكوكية الشاقة، مرتين اسبوعيا.
وفي إحدى تلك المرات، وصل خضر إلى بيت أخيه برهوم في المخيّم، متعَبا والأصح مُنهَكا، من ثقل البضاعة المهرَّبة التي كان يحمِلُها على ظهره ومن الملابس الشتوية التي كان يتدثّر بها تحسبا من موجة برد متوقعة.. وما أن استراح قليلا وسلّمَ البضاعة الى المشترين الذين كانوا بانتظاره، حتى تناول طعامَ عشاء متأخرٍ ثم خلدَ الى نوم عميق لم يستفق منه إلا على صوت طَرقاتٍ على باب البيت، بدَت عاليةَ في هدأة ليلِ المخيم، وعلى وقعِ أقدامِ أخيه برهوم وهو يتقدم نحو الباب ليفتحه. هبّ خضر من فراشه واقفا لكنه بقي مسمَّرا في موضعه ومستترا خلف ستار (والاصح شرشف طاولة قديم) مدلّى على فتحة باب غرفته، ومصغيا بكامل تيقظه وانتباهه، فسمع صوتَ تحرّكِ مفتاحٍ في سكّرة، وصريرَ بابٍ يُفتح، كما سمع ايضا صوت رجلٍ يعتذر عن الازعاج ثم يقول لاخيه برهوم: "أنا بعرفك يا برهوم، وبعرف انو اخوك خضر موجود عندك وبدي احكي معو"...
سارع خضر الى إزاحة الستار والاندفاع نحو باب البيت. رأى امامه اخاه برهوم ورجلا طويل القامة، عريض المنكبين، يعتمر كوفيةً تُخفي ملامحَ وجهه باستثناء عينيه الواسعتين البارزتين وكأنهما تتوثبان للقفز من محجريهما. صوّب خضر نظره الى عيني الرجل، وبجرأةِ متهمٍ بريء وحرصِ من يكره توريط الاخرين وعزيمةِ من ينبري لتحمل المسؤولية لوحده، قال للرجل: "انا هو خضر. تفضل احكِ معي". تأمله الرجل مليّا ثم حوّلَ نظره الى برهوم مستاذنا إيّاه بالجلوس. وقبل ان يسمع هذا الرجل ردًّا من برهوم، كان يتهاوى على كرسي بجانبه، ويميط اللثام عن وجهه رويدا رويدا. بانت سحنتُه: وجهٌ اسمر اللون مستدير وممتليء، وشاربان كثيفا الشعر يشغلان حيزا واسعا من الوجه، وحاجبان ثخينان تقاربا حتى كادا يلتقيان وكانهما مظلة طولية ممتدة فوق العينين والانف.
ما ان استرخى هذا الرجل في كرسيه وراى برهوم وخضر يجلسان قبالته، حتى وجَّه حديثه الى خضر قائلا: "انا يا خضر اسمي خالد ابو عزيز من ترشيحا". ذُهل خضر ممّا سمعه فكرّر بدوره الاسمَ مغلَّفا بعلامات استفهامٍ وتعجب: "خالد ابو عزيز من ترشيحا؟!!!". فاجابه الرجل مؤكِّدا مرة اخرى على صحة ما يقول: "نعم يا خضر انا خالد ابو عزيز من ترشيحا. انا صاحب الدار التي عرضها عليك الحاكم العسكري". فسارع خضر الى القول: "بس انا ما قبلتش ( اي انا لم اقبل) عرضَ الحاكم العسكري. فماذا تريد مني؟". فقال الرجل: "انا اعرف انك لم تقبل ولذلك انا قادم اليك الان، راجيا منك بل متوسلا اليك ان تقبل ما عُرض عليك". اندهش خضر بل ذُهل ممّا سمعه، فوجّه سبابتَه نحو الرجل قائلا له بحزم: "انت لا يمكن ان تكون خالد ابو عزيز. انت حتما تنتحل شخصية الرجل، لان ما قلتَه لي الان، لا يمكن ان يصدر عن صاحب الدار الحقيقي خالد ابو عزيز". ابتسمَ الرجل ابتسامة صفراوية ثم مدّ يده الى جيبه فتناول "بطاقة لاجيء فلسطيني" من اصدار وكالة الغوث، وهويتَه الفلسطينية وقدمهما الى خضر. تمعّنَ خضر بالوثيقتين، قرأ اسم خالد ابو عزيز في الوثيقتين ثم دقّق نظره بالصورتين مقارنا إيّاهما مع سحنة الرجل، ففهمَ انه يقف امام ادلّةٍ دامغة تؤكد ان الرجل هو فعلا خالد او عزيز، لكنه (اي خضر) سرعان ما عاد ليتساءل عن الدافع الذي جعل خالدا هذا، يأتي اليه بهذه المبادرة الغريبة المنافية للمنطق المعتاد، فتوجّه الى الرجل مستفسرا عن ذلك.
تنهد خالد من اعماقه قبل ان يجيب بانفعالٍ شديدٍ عبّرَ عنه شارباه المتراقصان: "سمعتُ ان الجيش الاسرائيلي يقوم بهدم بيوت الفلسطينين المهجرين غير المأهولة، وانا لا اريد لبيتي في ترشيحا، الذي بنيتُه بعرق جبيني وبخبز اولادي، أن يُهدم حتى ولو لم أعُد اليه". توقف خالد عن الحديث لحظةً ليمسح بطرف كوفيته دموعا ترقرقت في مآقيه فاستدّرت دموعَ برهوم وخضر، ثم تابع حديثَه قائلا لخضر: "ارجوك ان تلبي طلبي يا خضر، واعدك اني إن عدتُ يوما الى الوطن، فلَكَ عهدٌ عليَّ. ساسكن انا في الطابق الارضي فقط، بينما العلوي يبقى حلالا زلالا لك"...
فهل لبّى خضر طلبَ خالد؟ ام ماذا؟ ولماذا؟ والى اللقاء في الحلقة القادمة(الثامنة والاخيرة) من مسلسل "هناك في جورة الذهب".