هناك في جورة الذهب(9) د.حاتم عيد خوري
سمع خضر طرقا خفيفا على باب بيته، مقرونا بصوت نسائيّ خافتٍ يقول:"افتح الباب يا خضر". أبت عليه رجولتُه ان يسأل: "من أنتِ؟". سارع الى فتح الباب. راى أمامه سيدة لم يتبيَّن ملامحَ وجهها تحت ضوء القنديل الخافت، لكنّه لاحظ أنها ترتدي فستانا اسود اللون، طويلا وفضفاضا وتتلفع بمنديل اسود تطلُّ من تحته وعلى جانبيه خصلُ شَعرٍ أبيض ناصع. وما ان قال لها بحكم العادة: "تفضلي"، حتى دلفت الى داخل البيت وهي تسارع الى اغلاق الباب وراءها. مشى خضر امامها نحو قنديل الكاز ليرفع ضوءه، فظنّت انه يشيح بوجهه عنها. تحركت بضع خطواتٍ متثاقلةٍ على المصطبة، ثم توقفت وكأنها تجمّدت في مكانها، قائلةً بلهجةٍ لا تخلو من عتاب مبطّن: "شو كنَّكْ مش عارفني يا خضر؟!". رنينُ صوتها وسقوطُ ضوء قنديل الكاز المتراقص على وجهها، مكّنا خضرمن معرفتها فتحرك نحوها فاتحا ذراعيه وقائلا لها بانفعالٍ شديدٍ أيقظَ زوجتَه وامَّه: "اهلا وسهلا بخالتي ام نجيب"...
بعد كلمات الترحيب والتأهيل بام نجيب، اراد خضر ان يسألها عن اسباب زيارتها في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، لكنه امتنع عن ذلك إحتراما منه لإصول الضيافة العربية التي تقتضي تقديم القهوة اولا، فتقدم نحو الموقدة لاشعال النار فيها.. تاركا النسوةَ الثلاث يغصن في لجّة الذكريات وتنسّم الاخبار عن مهجَّري "جورة الذهب" المشتتين داخل الوطن وخارجه،... وبينما كان يُعدُّ القهوة على نار الموقدة، كان خضر يسرح في افكاره، فتذكر بيت ام نجيب في "جورة الذهب" والبيارة والسور المحيط بها وما حوله من اراضٍ زراعية واسعة وآبار ارتوازية غـزيرة المياه، كما استعاد في ذهنه صورتين متباينتين لام نجيب: تفجّعَها يوم توفي زوجُـها في عزِّ شبابه تاركا لها طفلهما نجيب وحيدا، وفرحَها العارم يوم زُفّت اليها بشــرى تخـرّج نجيب بامتيـاز فائق من الكليـة العربية في القدس سنة 1946، وحصـوله ايضا على شهادة مترك فلسطينPalestine Matriculation، ممّا أهّله فيما بعد للفوز بمنحة تعليمية كاملة في لندن...
ما إن عاد خضر بغلّاية القهوة التي كانت تفوح منها رائحة الهيل، حتى سمع ام نجيب تتابع حديثها عمّا جرى لها منذ احتلال "جورة الذهب". لقد روت أن الجيش الاسرائيلي قد سمح لها ولبعض المسنّين بالبقاء في البلاد، ولكن ليس في "جورة الذهب"، فتمّ نقلُهم بسيارة الجيش الى عكا القديمة، وما زالوا هناك. لقد اعتبروا وضعَهم هذا، بالمقارنة مع اوضاع اللاجئين في لبنان، نعمةً يُحسَدون عليها. لكنهم ما لبثوا ان تبيّنوا ان مع هذه النعمة توجد نقمة، وذلك عندما اخذ الحاكم العسكري يضغط عليهم لبيع املاكهم في جورة الذهب، مستغلّا الضائقة الاقتصادية، ناهيك عن الازمة النفسية، التي يعيشونها في غياب من يعيلهم.
تنهّدت ام نجيب من اعماق قلبها ثم اضافت بلهجة كسيرة: "أنا يا ابني يا خضر، صفّيت لحالي مثل المقطوعة من شجرة. إبني بعدو في لندن ومش سامحين إلو بالرجوع لعندي، واقاربي مشتتين في لبنان وغير لبنان... واليوم ما في إلي، ولا بقيلي حدا، إلا الله وانت يا خضر". فجأة، توقفت ام نجيب عن حديثها لأن سيلَ عَبراتِها قد قطعَ سيلَ عِباراتِها، فبكت وابكت من كان حولها، ثم عادت فتمالكت نفسها وتابعت حديثَها بنبرةِ مَنْ يعتذرُ، قائلة: "وعشان هيك أنا قُلت للحاكم العسكري منشان اتخلص منّو، إنّو هَلّي بصير على خضر بصير علي كمان، وهَلّي بِرْضي خضر بِرْضيني أنا كمان. فإذا خضر بقبل إنّو يتخلّى عن املاكو في جورة الذهب، بتخلّى أنا عن املاكي"...
لم تدرِ ام نجيب وقعَ حديثِها على خضر، لأنها لم يكن لها علم بالاحداث التي مرّ بها خضر، وبالضغوطات التي جابهته، وبالمشاعر التي عصفت به في غضون الاشهر الماضية، والتي بمجملها قد بلورت لديه قبيل قدومها الى بيته، "ميلا الى قبول صفقة التبادل باعتبارها قضية شخصية محدودة الابعاد". لقد وقع حديث ام نجيب على خضر وقوع الصاعقة، فجعله يتساءل بينه وبين نفسه: "أهي فعلا قضية محدودة الابعاد أم أنها ستصبح قطْعا، حلقةً اولى في سلسلة من صفقات التبادل التي تنطوي عمليا على بيع مقنّع لاملاك الفلسطينيين الاصلية؟". كما أعاده حديثُ ام نجيب الى المربع الاول، فعاد ليتساءل من جديد: "هل عليَّ أن اقبل أصلا مبدأ التبادل؟ ام ارفضه متجاهلا توسّل خالد ابوعزيز واستنجاده بي لانقاذ داره من هدم مؤكد؟ وغير آبهٍ ايضا بغضب الحاكم العسكري؟ وكيف أستعيدُ تصريح التنقل؟ واين ساجد عملا بدونه؟ وهل استطيع أن اعتمد التهريب وسيلة دائمة لضمان لقمة العيش لاسرتي؟" وغيرها من الاسئلة التي استعصت عليه، سيما تساؤله المُلحّ جدا: "ماذا اقول للحاكم العسكري غدا صباحا؟"...
عندما وقف خضر صباح الغد أمام مكتب الحاكم العسكري، كان ما زال يبحث عن إجابة للسؤال ذاته: "ماذا اقول للحاكم العسكري؟". لكن ما أن دخل الى المكتب وجلس قبالة الحاكم ورآه مسترخيا في كرسيه، وسمع سؤاله المتوقَّع عن التبادل، حتى اجابه دونما تردد: "أنا لست موافقا على التبادل".
ذُهل الحاكم العسكري من هذا الردّ لانه كان قد توقّع ان يكون خضر قد تعرض لضائقة مادية في أعقاب مصادرة تصريح تنقله وبالتالي حرمانه من متابعة عمله مع المقاول، كما توقع ان تكون تلك الضائقة المادية قد ليّنت عريكتَه وكسرت عنادَه وخلقت بالتالي، لديه استعدادا للموافقة على التبادل. إستشاط الحاكم غضبا فبدا كمن يهمّ على طرد خضر من مكتبه مرة اخرى، لكنه سرعان ما تمالك نفسه قائلا لخضر بليونة مفتعلة: "غريب امرك يا خضر. لقد رفضتَ سابقا قبول تعويض ماليّ، وها انت الان ترفض استبدال مِلكٍ بملك!!. ألا تريد يا خضر ان تتجذّر في هذه البلاد؟!!". فاجابه خضر بجرأةِ عينٍ تتحدّى مخرزا: " بلى يا سيدي. اريد ان اتجذّر في وطني هذا. ولكن جذوري هناك...هناك في جورة الذهب"