وجدانيّات فهيم أبو ركن في مجموعته الشعرية «أَستَلُّ عطرًا»
بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف
تفضّل الأديب والشاعر الأستاذ فهيم أبو ركن مؤخرًا باهدائي مشكورًا نسخة من مجموعته الشعرية الجديدة التي تحمل عنوان «أَستَلُّ عطرًا» حيث قمت بقراءة القصائد الواردة فيها التي صنّفها في ثلاثة أبواب : الوطنيات ، الوجدانيات ، والمراثي؛ وقد ارتأيت أن أتناول بالبحث والتعليق على القصائد الخاصة بالوجدانيات في هذه المجموعة الشعرية التي تتسِّم بالجمالية التعبيرية ، والموسيقى اللفظية ذات الايقاع العذب ، والرونق التصويري في ابتكار الصورة ،واندفاق الكلام السلس اللطيف والأنيق .
إنّ الجميل في كل ما أطلقه شاعرنا الراقي فهيم أبو ركن هو ذلك النبض الذي يعطي الكلام حياة شفافة المعاني والصور ، هو تلك الحيوية التي تتجلّى وكأنها تمنحه صفاء نسغها ليتمكن من التحليق ، ومن الصعود الى أبعد نجمة في ثنايا الأفق كما تعكسه كلمات قصيدة «زيارة طيف» (ص75) التي تؤطِّر لتلاقٍ انسانيّ جمالي بين الحبيب والمحبوبة بانسجامٍ فائق بين مفاتن الطبيعة ورقة المعشوقة من حيث اسقاط جماليات الحياة في غزلٍ متحضِّر شفّاف يلامس شغاف القلب عند السامع أو المتلقي الذي يستمتع بسطور القصيدة لفظًا ومعنىً ، وبالتالي نرى من المهم أن نسوق هذه القصيدة هنا لالقاء الضوء على مضمونها المشار الى فرادتهِ الشعرية التي تطرقنا اليها آنفًا حيث جاء فيها :
افترقنا في المساءِ
وفجأةً باغتني طيفُكَ بزيارةٍ ...
هلْ هربَ منكَ إليَّ
أم أن قلبي أوحى إليهِ أن يتبعني ؟!
إنّه يحملُ عطرَكَ
وأراه سعيدًا متألقَ الجمالِ
يبدو أنّه تحايلَ عليكَ ..
أدخلَ النعاسَ الى عينيكَ
وطارَ إليَّ
أنا الآنَ أُسامِرُهُ
أشربُ مَعَهُ بُنَّ الليلِ
أرتشفُ رحيقَ السعادةِ
وها هو يُحادِثُني
يفشي لي بأسراركَ
نسينا نفسينا معًا
ونسيناكَ ...
طيفُكَ قرّرَ أن يبقى معي حتى الصباحْ
والفجرُ لاحْ
تألَّقَ في مُقلتيْكَ
عادَ إليكَ فوَجَدني انتظرُهُ
بين يديْكَ .. !
في هذه القصيدة نجد أنّ البُنى الدلالية للكتابة الابداعية ذات خصوصية مفارقة للكتابة اليومية العادية ، فهي تحمل نوعًا خاصًا إن لم يكن استثنائيًا من أنماط الدلالة بحيث أنّ محمولات النص الابداعي ذاتهِ من دلالات يتضمنها النص الغنائي ، عبر محمولات الانساق اللغوية المباشرة وغير المباشرة ، والتي تتعدّد اشكال قراءتها وتتنوّع حسب المعنى المباشر والمُضَمّن فيها ، وحسب قدرة ووعي المتلقي على الربط والتحليل اجتماعيًا ونفسيًا وحسيًّا .
ومن البديهي أنَّ الغزل هو الفن الشعري الذي يدور حول المرأة وما يتعلق بها من وصف لجمالها ، وتولُّه في حبها ، وتودُّد لارضائها واستمالتها ، وذكر للقائها وفراقها . وهذا الفن هو الذي حَلّق فيه شاعرنا في وجدانياته ، فهو يتمتع بعاطفة فيّاضة ، واحساس مرهف ، وخيال ناعم رقيق ، وخصوصًا فيما يتعلّق بذكريات حبهِ ولقاءاتهِ مع المرأة التي هي عنوان الحب والجمال . لذلك نرى أنّ شاعرنا يركِّز على هذه الناحية في قصيدة «اعترفي» (ص79) فيقول :
البُعْدُ عنكِ شجونٌ
والقربُ مِنكِ جنونٌ
يا أريجَ الحرفِ والكلامِ
لم تتركي نفحةً من الأحلامِ
وغدا حزينًا وجهُ الصباحِ
فتحتِ كُلَّ الجِراح
نَزَفَتْ شواطئُ اللوعةِ
وأمسى عذابُ القلبِ إِعصارُ رياحِ
فدعيني أَسيرْ
يا أَميرةَ الملاحِ
واتركيني أركضُ أو أطيرْ
لا تَقُصّي لي ريشةَ الجناحِ
أحلامُكِ لن تعرفَ الذبولْ
ما دُمتُ شعرًا فيكِ أقولْ .
وهنا نود الإشارة الى عدد من الصور الشعرية المتميزة التي نلتقيها في هذه القصيدة مما يُعمِّق ويخدم النص الشعري . ومن ذلك :
_ أريج الحرف والكلام .
_ غدا حزينًا وجهُ الصباح .
_ أمسى عذاب القلب اعصارُ رياحِ .
_ نَزَفتْ شواطئُ اللوعةِ .
أحلامُكِ لن تعرفَ الذبولْ .
ومن نافلة القول أنّ هذه الصور الشعرية قد صيغت في اطار مجاز لغوي من الاستعارات اللافتة (metaphor) والتي تتجلّى بكلماتٍ واوصافٍ أخرى في غيرها من القصائد كقصيدة «تُطلّينَ ... ولا تطيلينَ» (ص 83) مما يؤكدِّ أنَّ شاعرنا قد جعل للمرأة والحب نصيبًا وافرًا من شعرهِ في مجموعته الشعرية هذهِ ، وخصهما بلواعج نفسِهِ وجميل نظمهِ ، فقد بيّنت لنا تلك القصيدة المذكورة هنا أنّه كان يحب المرأة حبًا حقيقيًا يخالط كل خاطرة من خواطرهِ ، ويهيمن على كل أفق من افاق كيانهِ ، وهذا الحب يجعله قريبًا منها بالروح والقلب والشعور ، فالمرأة عند شاعرنا دنيا من جمال وسحر ، يرى فيها كل ما تشتهي نفسه من بديع الصفات وجميل اللحظات . وهكذا فإنّ المرأة في نظره ، عبارة عن جمال ظاهري خلّاب ، يأخذ بمجامع القلب والروح ، فتهتز مشاعره لكل جمال يتجسَّد في كونها ربيع العمر ، وعذوبة الحياة وقداسة الحب . فشاعرنا يقدِّس المرأة ويجلّها ولا ينظر اليها نظرة شهوانية ، وكل ذلك يتمظهر ويتّضح في قصيدة «تُطلّينَ ... ولا تطيلينَ» التي نحن بصددها حيث ورد فيها ما يلي :
تُطِلّينَ
تُطِلّينَ مِن بعدِ السنينْ
مِن بعدِ السنينِ الضائعةِ
عَبْرَ أزقةِ الحنينِ ..
وتخرجينْ
تخرجينَ من غُبارِ النسيانْ
شالاً يحضُنُ خاصرةَ السنديانْ
لوحةً تُسْكِرُ الوانُها أعماقَ البحرِ
والرمالَ والوديانْ
تُطلِقينَ أشرعةَ الذكرى والاشتياقِ والحنانْ
تُطِلّينَ مع السَّحَر وتختفينَ مع وَهَجِ النهارْ
كعطرٍ ضاعَ .. ثارَ .. ثُمَّ طارْ
مع هجرةِ الأطيارْ
وقصةُ حُبّنا
تَخُطُّها نفائسُ الأسفارْ
زهرةً تغارُ منها الزهورْ
بَدْرًا خَجِلتْ مِن بسمتِهِ أميراتُ البدورْ
قمرًا يَطِلُّ من فوقِ السحابْ
ويختفي خَلفَ السرابْ .
وختامًا ، فإنَّ خلاصة القول تتمثّل في أنَّ ذكريات الحب واللقاء عند شاعرنا في وجدانيات مجموعة «أَستَلُّ عطرًا» ، هي ذكرياتٌ خالدة خلودَ نفسِهِ ، باقية بقاء دقات القلب ورعشات الحياة ، ففيها تكمن لحظات عمره الجميلة ، ومنها تغتذي روحه التوّاقة للحب ، يعيدها الشاعر في أنس السكون ، وصفوة الأحلام ، ولحظات الرؤى الخيالية الشفافة ، الى عالم الواقع الأليم ، فيجسدها أمام ناظريهِ نورًا حلوًا رقيقًا ، فتغمره نشوة من السعادة بتلك الذكريات التي يستحضرها بصورة دائمة فهو لا يستطيع فراقها وتحمُّل نسيانها ، لأنّ ذلك نشيد هواه كثير الصور والألوان باستعارات ساحرة تكرِّسها خفقات قلب الشاعر ، وسكرات الحب الصافي .
وأخيرًا لا بُدَّ ان نعود ونكرّر ما أشرنا إليه مِن أنَّ هذه المداخلة قد كرّسناها لباب الوجدانيات في هذهِ المجموعة التي تشمل أيضًا بابيّ الوطنيات والمراتي اللذين يتضمنان قصائد رصينة ، هادفة تتميّز أيضًا بنزعةٍ إنسانيةٍ حافلةٍ بأناقةِ الأسلوب ومتانة اللغة واندفاق الأفكار النيّرة .
فلشاعرنا الكريم الأستاذ فهيم أبو ركن ، أصدق التحيّات وأجمل التهاني مقرونة بأطيب التمنيات بموفور الصحة وبالمزيد من الابداع والعطاء والتوفيق .
كانون الأول 2019