لم أكن أتصوّر في يوم من الأيّام أن يأخذني القدر إلى زيارة أحد السّجون، وأن أجلس هناك مع بعض الزّملاء، مصغيًا إلى سجين قاتل، يتحدّث بإسهاب عن جريمته، وقد قتل أخته على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة. كان ذلك قبل أيّام، في الجولة التي نظّمتها مجموعة من الأساتذة الجامعيّين المهتمّين بدراسة معنى "الآخَر" والتّواصل معه.
لقد تردّدت كثيرًا في تلبية دعوة هذه المجموعة، ربّما لهول التّجربة وما قد تثيره في نفسي من اضطراب، وربّما لأنّني لا أومن بالسّجن وسيلةً لاجتثاث الشّرّ وبناء مجتمع صالح. ولكنّني قرّرت في النّهاية أن أزور هذا السّجن الذي يقيم فيه من أُدينوا بالاختلاس، والاحتيال، والتّزييف، والعنف، والطّعن، والقتل، وغير ذلك من أنواع الذّنوب والآثام، رغبةً منّي أن أعرف الإنسان أكثر، والحياة أكثر، وأن أقف على ذلك الصّراع الدّاخليّ اليوميّ في ذواتنا بين الخير والشّرّ، والأسباب التي تدفع الإنسان إلى الجنوح عن طبيعة الخير التي جُبِلَ عليها.
إنّ تسجيل تفاصيل تلك الزّيارة أكبر من مساحة الذّاكرة، بل إنّ كلّ تفصيل صغير، مِن كلب لا يكفّ عن العواء حول فناء السّجن، وأبواب تُفتَح وتُغلَق، ووجوه تتجهّم أو تنبسط - كلّ هذه التّفاصيل كانت بالنّسبة لي أعظم من مئات الكتب التي أقرأها محاولًا اكتشاف الإنسان والحياة.
كنت أصغي إلى ذلك السّجين الذي أخذ يتحدّث طويلًا عن ماضيه، وذنوبه، وجريمته في قتل أخته، وانتقاله إلى عالم جديد يدرك فيه آثامه الفظيعة، ويعبّر عن لوعته، محاولًا استيعاب تلك القيم الإنسانيّة التي ضيّعها صغيرًا. كان يبدو بشوشًا وطيّبًا، وكانت السّعادة جليّة على وجهه لكونه قد حظي بهذا الاهتمام وهذه المقابلة التي يسرد فيها تفاصيل حياته وتفاصيل السّنوات الطّويلة التي قضاها في السّجن.
خرجتُ من هناك وخرجتْ معي آلاف الخواطر والذّكريات. إنّه قاتل ومقتول في آن واحد. لقد قتل هذا السّجين أخته لأنّ قتل المرأة في مجتمعنا بطولة، وقمعها بطولة، واضطهادها بطولة، و"غسل العار" بطولة. لقد قَتَلَه المجتمع بمعتقداته الذّكوريّة القبليّة وقَتَلَ فيه تلك الرّحمة الفطريّة التي غرسها الله في الإنسان، قَتَلَ فيه أواصر الأخوّة التي تربطه بأخته، قَتَلَ انتماءه ومحبّته لابنة أمّه وأبيه، قَتَلَ فيه الاحتواء، والاحترام، والعطف، والرّأفة، والصّفح، والغفران، قَتَلَ فيه هذه القيم السّامية فقتلها. هو قاتل ومقتول في آن واحد. قتلوه في الدّاخل فقَتل في الخارج، قَتَلَها لأنّهم يمجّدون الأبطال الذين يقتلون المرأة، وقَتَلَها لأنّه قتيل ثقافة متخلّفة زرعها المجتمع فيه. إنّ معاقبة المجرم لا تعني إنهاء الجريمة، وسجن القاتل لا يعني تطهير المجتمع من وباء اضطهاد المرأة وسحقها. إنّ الطّبيب الذي يداوي المريض يحاول دائمًا العثور على أسباب المرض لمعرفة علاجه، لأنّ المُسكّنات لا تتجاوز حدود جدواها المؤقّتة. السّجن مُسكّن يردع المجتمع، ولكن في الحقيقة لا شيء يردع الإنسان مثل ضميره، حيث يَسكُن الله، وهذا لا يكون إلّا بتربية صالحة ومحيط سَوِيّ، لأنّ المجتمع الذي يقتل الضّمائر بثقافته الموبوءة في البيت والحيّ والبلد هو المجتمع الذي يلد القتلة والجانحين والمجرمين.
وراء كلّ قاتلٍ في السّجن قاتلٌ آخر خارج السّجن، ويبقى المذنبون والخُطَاة أحقّ النّاس بالعطف والرّأفة والرّحمة، ومن كان منّا بلا خطيئة فَلْيرجمهم بحجر.