مفهوم «النفس» على مستويات فلسفية متنوعة
دراسة : الدكتور منير توما كفرياسيف
في هذه الأيام وفيما سبق أيضًا ، يؤمن مئات الملايين من الناس أنّ هناك شيئًا يدعى «النفس» أو «النفوس». المسيحيون ، اليهود ، المسلمون ، الهندوس، السيخ ، أتباع الطاوية والجانية _ كذلك المصريون القدماء ، اليونانيون ، الرومان ، الصينيون وعديدون آخرون ، من الأحياء والأموات _ يعترفون بإيمانهم واعتقادهم بمثل هذه الأشياء : النفوس العاقلة ، النفوس الكونية أو العالمية ، النفوس الثنائية الانشطار أو ثلاثية الانشطار ، النفوس الخالدة والنفوس التي تموت مع الأجساد ... ومع ذلك ، ولكل هذا الإجماع التاريخي حول الحقيقة الصريحة الجرداء لوجود هذه الأشياء النفسية العقلية ، فإنَّ هناك قليلاً من الاتفاق بشأن ماهيتها ، وأي نوع من العلاقة يربطها مع الأجساد ، وأية إمكانية تُعدّ دليلاً على وجودها .
إنّ «النفس» ، كما يؤكد مؤسس العقيدة البهائية ، «هي علامة الله ، جوهرة سماوية فشل في ادراكها والإحاطة بها حتى أكثر المتعلمين والنابهين معرفةً ، بحيث أنّ غموضها كان عصيًّا على أي عقل مهما بلغ من الذكاء والأمل في الكشف عن هذا المجهول الغامض» . إنَّ «النفس» هي شيء غامض أساسًا ، غير محسوس ، غير مفهوم : إنها شيء عن طريقه نتقاسم أو نشاطر طبيعة الله أو الالهه (أو لا) وكذلك تسمح لنا أن نعيش الى الأبد (أو لا تسمح) .
ورغم الاختلاف المحيِّر والمتعدِّد في النظريات التي تناولت طبيعة «النفوس» ، فإنّ هناك أرضية مشتركة . وبتعريفها جزئيًا بمصطلحات ليست هي لها _ أي الجسد ، الذي هو مادي _ فإنَّ «النفس» هي الجوهر غير المادي للانسان أي الكائن البشري . إنّها المبدأ الحيوي أو الجانب الذي يحيي ويحكم الجسد ، معطيًا الانسان شخصيته ويضمن استمرارية تلك الشخصية على مدى الزمان . إنّ «النفس» هي الجزء الواعي للشخص ، مَقْعَد الارادة البشرية ، العقلانية والفكر ، وبالتالي على وجه العموم هي التعايش بين العقل والذات . وفي الكثير من العادات والتقاليد الدينية ، فإنَّ «النفس» قادرة على أن تعيش منفردة عن الجسد ، وأن تبقى حيّة بعد موت الجسد ؛ واستطرادًا ، يمكنها أيضًا أن تكون خالدة وعرضة لأنواع متعددة من الثواب والعقاب الالهي .
إنّ الفكرة بأنّ الجسد والنفس هما في الأساس مختلفان ، تلك الفكرة المشتركة في معظم التقاليد ، والبارزة في الإيمان المسيحي ، تفتح هوة عميقة بين الإثنين . إنّ هذا التقسيم يمكن ارجاعه الى اليونانيين (إن لم يكن مبكرًا أكثر) وخصوصًا الى أفلاطون ، الذي افترض وجادل بشكلٍ متكرّر أنّ النفس خالدة واقترح «عَالمًا كائنًا» متميزًا مسكونًا بكيانات (أشكال) كاملة تامة ثابتة غير قابلة للتغيّر والتي لا يمكن فهمها إلّا بواسطة «النفس» فقط . إنَّ هذه الصورة «لنفسٍ» ملهمَة إلهيًا مسجونة مؤقتًا في جسد سفلي مقيّد أرضيًّا قد أثارت انطباع وأثرّت في اللاهوتيين المسيحيين المبكرين . فقد رأى القديس أوغسطين ، على سبيل المثال ، في «النفس» مادةً أو جوهرًا خاصًا ، موهوبًا عقلاً ، ملائمًا ليحكم الجسد .
في التقاليد الفلسفية الغربية ، يُلَاحظ أنّ الفكرة بأنَّ الجسد والنفس هما أساسًا متميزان (مدعوّان ثنائية المادة أو ثنائية الجوهر) كانت الأكثر تقدمًا في تأثيرها عن طريق الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في القرن السابع عشر .
وبتعامله مع العقل والنفس كمترادفين فعليين ، تصوَّر ديكارت العقل كمادة عقلية «كشيء خام» غير مادي طبيعته هي التفكير . كل شيء آخر هو مادة ، أو جوهر مادة ، الذي صفته التعريفية هي توسع مكاني (أي إشغال حيِّز فيزيائي) . إنّ صورة «النفس» غير المادية بكيفيةٍ ما تعيش في الداخل وتسحب روافع الجسد المادي ، كانت مشهورة كمحاكاة لِ «الشبح في الآلة» للفيلسوف الانجليزي «ﭼيلبرت رايل» في كتابهِ (مفهوم العقل) عام 1949 .
إنَّ المشكلة الكبرى لصورة ديكارت هي أنه عن طريق التعامل مع الجسد و«النفس» باعتبارهما في الأساس متميزين ، فإنّه يفتح صدعًا يظهر غير قابل للجَسْر . الصورة تفترض (كما نحن نتوقع) أنَّ الجسد و«النفس» يتداخلان _ الشبح عليه أن يشغِّل الروافع _ لكن اذا كان نوعا المادة مختلفين تمامًا ، فكيف يمكن لمثل أي تداخُل مُتصَوَّر أن يحدث ؟ كيف يمكن لظواهر عقلية مُحتمل أن تؤثر أو سببيًا أن تُرْجَع وتُنسَب الى حالات فيزيائية وأحداث في الجسد ؟ بالنظر الى ذلك بهذه الطريقة ، فإنَّ الثنائية الديكارتية تصبح سطحًا صغيرًا للغزٍ فلسفي عام محيّر أكثر : مشكلة العقل _ بالجسد . إننا جميعًا حالاً واعون لوعينا _ وذلك أنّه لدينا أفكار ومشاعر ذاتية وعليها نملك منظورًا فريدًا وشخصيًا ؛ العلم ، بالمقارنة ، موضوعي بشدة ومفتوح للتمحيص . نحن يمكننا أن نندهش ونعجب كيف أنَّ شيئًا غريبًا كالوعي باستطاعته أن يتواجد في العالم الفيزيائي المشروح والمفسِّر بواسطة العلم ؛ وأسوةً بذلك وبالتأكيد سوف نعمل جاهدين لإيجاد مكان «النفس» ، المَقْعَد المفترض للوعي .
إنّ أرسطو تعرّف وأدرك المخاطر الكامنة في التقسيم الحازم للجسد «والنفس» . لقد افترض جدلاً أنَّ «النفس» هي جوهر ما هو كائن بشريًا وأنه ليس من المعقول او المنطق أن نحاول فصلها عن الجسد : «يجب أن نتوقف أبدًا ودون رجعة عن السؤال فيما اذا كانت النفس» والجسد هما واحد كما لو أنه لا يجدر بنا أن نسأل فيما اذا كان الشمع والتمثال المرسوم عليه هما واحد . ديكارت أيضًا ، كان واعيًا للمشكلة ، مُذعنًا ومتنازلاً بأن الله سوف يقوم بتدخل مباشر ليعطي العلاقة السببية الضرورية النتيجة المطلوبة بين الجسد و «والنفس» ، لكنه بذل جهدًا ضئيلاً هو نفسه لحل الصعوبة .
وبالإجمال ، فإنّ معضلة الجسد والنفس لم تجد الحل القاطع عند الفلاسفة اللاحقين ، وكانت أغلبية الفلاسفة راضية ومقتنعة بحل أحجية الثنائية الديكارتية عن طريق التنكّر لها _ بالإدعاء أنّ هناك نوعًا واحدًا فقط من «الشيء خام» في العالم . وعمومًا فقد أصرّ أغلب الفلاسفة اللاحقين هؤلاء ، بأنّه من حيث كون موضوع المادة العلمية هو فيزيائي حصريًا ، لذا فإنَّ العقل والوعي أيضًا يجب أن يكونا خاضعين ومنقادين الى التفسير العلمي ، بمصطلحات فيزيائية . وبهذهِ الصورة ليس هناك مكان لتناول «النفوس» بالبحث والتحليل واستقصاء مفهوم «النفس» إلّا فلسفيًا أو في إطاراتٍ روحية النزعة والمنشأ والهوية .