يقتربُ موعدُ الانتخابات العامّة، التي تجري للمرّة الثّالثة، خلال عام تقريبًا، وهذه سابقة في تاريخ الدّولة، وما زالت تطرح أسئلة مركزيّة، بعضها يمسّ طبيعة وجودنا كأقليّة قوميّة في بلادنا، وبعضها يتعلّق بالسّياسة العامّة، في الدولة بشكل عام، وبين مجتمعنا العربيّ بشكل خاص.
ومن هذه الأسئلة الأساسيّة، السّؤال: لماذا نصوّت؟ وهو سؤال هامّ، يعلو من بين ظهرانينا، في كلّ جولة انتخابيّة، ويتسلّل من الخارج كلّما تعاظم الوزن النّوعيّ السّياسيّ للجماهير العربيّة، وكلّما اتّسعت إمكانيّة تأثيرها على السّياسة العامّة في الدّولة. ولكلّ مصدر ينطلق منه هذا السّؤال دوافعه ومصالحه، ولكنّ النّتيجة المرجوّة من الاستجابة لهذا السّؤال تجمع الدّوافع المبرّرة، والمصالح المعادية في خانة واحدة.
نصوّت لأنّ الانتخابات حقّ لنا، والحقوق تؤخذ ولا تعطى، وقد أخذنا هذا الحقّ، مذ قيام الدّولة، وهو مكسب سياسيّ، اجتماعيّ، اقتصاديّ، ثقافيّ، مكسب يُميّز مكانتنا في البلاد كأقليّة قوميّة تناضل من أجل رفع مكانتها، ويُبرز طبيعة وجودنا كمواطنين يسعون للحصول على الحقوق المتساوية، وهو جزء من هويّة بقائنا الوجوديّة العزيزة في البلاد.
هناك، للأسف من يسخّف هذا الحق، ويستهتر به، وحتّى يستهزئ به؛ وبعضهم لهم دوافعهم الفكريّة، والعقائديّة، وبعضهم لهم مصالحهم السّياسيّة والقوميّة المعادية، فكيف يجتمع الضّدان في الظّاهرة الواحدة؟
إذا عدنا إلى أدبيّاتنا الماركسيّة، نجد أنّ كل ظاهرة تحتوي على ضدّين: مبرّرات وجودها، وإمكانية إلغائها، فكلّما توفّرت شروط المطر فسيبقى يتساقط، وعندما تزول الشّروط يختفي المطر؛ وطالما توفّرت شروط ممارسة المجتمع لحقوقه، اتّسعت دائرة فعل هذا المجتمع وتأثيره على مصالحه ومستقبله، وبزوال هذه الحقوق يفقد هذا المجتمع قدرته على تقرير مصيره.
إنّ المعادلة التي أثبتت الحياة صحّتها هي أنّه كلّما تمسّكت الشّعوب بحقوقها، ودافعت عنها، ومارستها، استطاعت هذه الشّعوب أن تحافظ على مكاسبها، ومصالحها، وتطوّرها. ولنلتفت حولنا لكي ننتبه إلى هذه الظّاهرة؛ فكلّ الدّول المتطوّرة فيها شعوب حيّة، ناشطة، فعّالة على كلّ المستويات، ونجد أنظمة تحكمها تضمن لهذه الشّعوب حقوقها، وتأثيرها، ومكانتها. وقد تجد دولًا غنيّة بثرواتها الطّبيعيّة، تستأثر نخبة هذه الأنظمة بهذه الثّروات، وتحرم شعوبها من خيراتها، وتقصيها عن دائرة التّأثير، فتبقى هذه الدّول فقيرة بالحريّات، والحقوق، والديمقراطيّة الحقيقيّة.
لا ديمقراطيّة حقيقيّة بدون المشاركة الفاعلة للشّعوب في ممارسة حقوقها، وفي الدّفاع عن مصالحها، وفي صنع مستقبلها. ومن يريد تهميش دور هذه الشّعوب فهو يدعوها إلى التّنازل الإراديّ عن حقوقها، أو عن بعض منها، أمّا من لا يعترف بالنّظام الذي يعيش فيه، ويريد تحصيل حقوقه في التّطوّر المساوي لغيره من المواطنين، فهو في تناقض وجوديّ كبير، فكيف تأخذ حقّك من نظام لا تعترف بوجوده، إنّها وصفة سياسيّة للتّنازل الطّوعيّ عن الحقوق!
أمّا من يدعو إلى عدم ممارسة هذا الحقّ من جهة معادية لصاحب الحقّ، فهو صاحب مصلحة قوميّة صهيونيّة يمينيّة متطرّفة، تهدف إلى أن يسود في الدّولة فكر واحد، لا سواه هو الفكر الصّهيونيّ الذي يمثّل المصالح والأطماع المترتّبة عليه من احتلال، ومن حروب، ومن سيطرة على المنطقة ومقدّراتها. وقد ثبت أنّ هناك دوائر تابعة لهذه الحركة الاحتلاليّة العدوانيّة الخطيرة، تموّل وتروّج لأفكار ومواقف المقاطعة، التي تحرم الأقليّة طوعًا، من وجودها السّياسيّ في مؤسّسات الدّولة المتاحة، وبالتّالي من تحقّق هذه الأفكار والمواقف لأهداف الحركة الصّهيونيّة.
أمّا غير المبالين بواقعهم حاضرًا ومستقبلًا، فهل هم قدوة تحتذى، هم غير مسؤولين عن أنفسهم في لا مبالاتهم، فهل يمكنهم أن يكونوا مسؤولين عن حياة غيرهم، وهل تصنع النجاحات، ويتحقّق التّطوّر بالإهمال؛ "فالنّبتة الطّيّبة تنمو بالعناية، والأشواك تنمو بالإهمال؟!".
هل من الحكمة تجاهل الواقع، أم هي تتطلّب الاهتمام به، وفهمه، وتحديد الدّور المؤثّر فيه، مع الحفاظ على مصالح النّاس الذين يعيشون فيه، وعلى حقوقهم، وعلى تعزيز تأثيرهم على مجريات حياتهم، مع الحفاظ على سلامتهم، وعلى شروط حياتهم الكريمة؟!
إنّ ظروف حياتنا المعقّدة في هذه البلاد، تتطلّب الانخراط في الحياة العامّة، وليس الانكفاء على الذّات، مهما صعبت هذه الظّروف، وازدادت تعقيدًا، وقد أثبتت الوقائع الكثيرة، مذ قيام الدّولة، وحتّى اليوم، أنّ هذه هي إرادة النّاس الحقيقيّة في مجتمعنا، هذه رغبة غالبيّة النّاس، وهي ما يدفعهم إلى اتّخاذ مواقف سياسيّة متباينة، فكلّ يعتقد أنّه اختار الطّريق الأسلم، والأفضل لتحصيل الحقوق، بغض النّظر عن موقفنا من هذه المواقف، إلّا أنها تدلّ بشكل قاطع، على الاتّجاه السّياسيّ العام لمجتمعنا، وهو الانخراط في الحياة السّياسيّة، والتّأثير عليها، ويمكن للمشكّكين أن يقارنوا بين نسبة المصوّتين، وبين نسبة المقاطعين، في كلّ الجولات الانتخابيّة السّابقة المتعاقبة، ليستدلّوا بالحقائق على ما ندّعيه.
وأنا لا أرى بالقائمة المشتركة إلّا تجسيدًا جماعيًّا وطنيًّا منظّمًا، لهذا التيّار الوجوديّ العام الذي اقتنعت به جماهيرنا، واختطّت دورها بناء عليه، مذ قيام الدّولة، وحتّى اليوم، وقد أثبتت الحقائق أنّ هذا الدّور يتنامى ويتعاظم، غير آبه بكلّ الأفكار والمواقف التي تدعو إلى مقاطعة الحقّ الأساس، في المشاركة الانتخابيّة.
ولا شكّ في أنّ من اضطلع بقيادة هذا الدّور التّاريخيّ للأقليّة القوميّة العربيّة، كان الحزب الشّيوعيّ، والجبهة الدّيمقراطية بالتّالي، وقد حسم هذا الاتجاه طريقه المركزيّة بين أبناء مجتمعنا، حتّى غدا التّيار المركزيّ في حياتنا، على جميع الأصعدة، وذلك مع الرّبط الأمميّ الواعي والمسؤول وبعيد المدى، مع الجانب القوميّ، بحيث يتكاملان ولا يتناقضان، فالجماهير العربيّة شريكة للقوى الدّيمقراطيّة اليهوديّة، على قلّة هذه القوى العدديّة، لكنّها قوّة نوعيّة للحقوق، والمصالح الحقيقيّة لشعبيّ البلاد: العرب واليهود.
في الخارطة السّياسيّة التي تشكّلت في هذه الجولة الانتخابيّة معسكران مركزيّان: اليمين الصّهيونيّ المتطرّف الذي لم يكتفِ بكلّ الاحتلالات والحروب، ويدفعه نهمه الصّهيونيّ لمزيد من التّوسّع والاستيطان والسّيطرة بدون حدود، ويقف على رأسه بنيامين نتنياهو، واليمين الصّهيونيّ الذي يكتفي بما حقّقته الحركة الصّهيونيّة حتى اليوم بحروبها واحتلالها، وهو مستعد للتعايش مع الوضع القائم، والتّفاوض على بقائه؛ وحتّى حزبا "العمل" و"ميرتس" اتّحدا وانخرطا في هذا التّيّار الذي يتزعّمه غانتس.
ولم يبق على السّاحة الانتخابيّة، خارج الإجماع القوميّ الصّهيونيّ سوى القائمة المشتركة، التي تضمّ الأحزاب المتعدّدة التي تمثّل أكثريّة المنخرطين في التّيّار المركزيّ، الذين يريدون صون البقاء العزيز، وتطويره، من خلال الاندماج بالحياة العامّة في الدّولة والتّأثير فيها، وتحصيل الحقوق، في أجواء السّلام العادل المنشود، وصولًا إلى المساواة الحقيقيّة.
لقد أثبتت الجولتان السّابقتان من الانتخابات العامّة، أنّ المجتمع اليهوديّ، بمعظمه، منقسم بين المعسكرين الصهيونيّين اليمينيّين، بالتّساوي تقريبًا، بحيث سيكون الجسم الحاسم، إذا تماسك المعسكران، بعد الانتخابات، هو القائمة المشتركة، ممّا يشكّل فرصة لهذا التّيّار المركزيّ في مسيرة بقاء المجتمع العربيّ، أن يعزّز مواقعه، ومكاسبه، وحقوقه، ومصالحه، ويضمن المزيد من شروط البقاء الكريم، والمستقبل المأمول.
إياد الحاج
كفرياسيف
22/2/2020