العواطف وتداعياتها من خلال كتاب «أخلاقيات» لسبينوزا
بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف
يقول بيندكت دو سبينوزا (باروخ سبينوزا 1677-1632) في كتابهِ الفلسفي «أخلاقيات» (باللاتينية Ethica وبالانجليزية Ethics) :
«إنّ للعقل قوة أعظم على العواطف وهو أقل خضوعًا ، الى هذا الحد الذي يفهم الأشياء كلها كما ضروري» .
لقد كان سبينوزا مؤمنًا بالحتمية (determinist) وهو مذهب يقول بأنّ أفعال المرء والتغيرات الاجتماعية إلخ .. هي تمرة عوامل لا سلطة للمرء عليها ، وهذا جعله يعتقد بأن الحرية البشرية هي وَهْمٌ .
نحن نعتقد أنَّ لدينا اختيارًا منطقيًا عاقلًا واعيًا ، لكننا في الحقيقة منقادين بواسطة العواطف . علاوةً على ذلك ، فإنّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتغلب على عاطفةٍ ما هو عاطفة أخرى : فالشفقة ، على سبيل المثال يمكنها أن تتغلب على الغضب . وعلى أية حال ، ليس لدينا سيطرة في هذه العملية أيضًا فوق ذلك ، لذلك يتور لدينا التساؤل فيما اذا كُنّا مجرد دمى في استعراض فارغ ؟ لا يمكننا أبدًا أن نحقق سيطرة على العاطفة ، لأنها هي السبب الفعّال للعمل أو الفِعل (هو كيف يتم دفع وانتاج الفعل) ، فيما يتعلق بالفكرة العاقلة المنطقية التي تكون بمثابة المتفرج العاجز معدوم القوة . ومع ذلك ، فإنّه لدينا درجة من الحرية فيما يتعلق بكيفية اختيارنا رد الفعل لعواطفنا. بفهم وقبول العواطف ، فإنّنا نتحوَّل من اعتبارها ورؤيتها كضحايا سلبية غير فعّالة ، الى التماثل معها كعوامل نشِطة فعّالة : أنا هو عاطفتي ، وانّه من الضروري أن أشعر بهذه الطريقة في هذه اللحظة الخاصة .
إنّ هناك شيئًا من الحكيم الشرقي حول سبينوزا . إننا لسنا تمامًا ، واعين ، عوامل عاقلة منطقية ، ولسنا أيضًا في الواقع ذوات مفردة منفصلة . لذلك فإنّ ادراكنا لذلك يمنحنا التحرّر والحرية من الوهم . إنّه كما لو كنا مسافرين في سيارة : إننا لا نقود السيارة ، لذا فنحن نجلس في الخلف واثقين أنَّ السائق يعرف الطريق . ولكن اذا كانت كل الأشياء ضرورية (لا يمكن أن يكون طريق آخر) إذن أليس تلك أيضًا تتضمّن أفكاري ، وبالتالي لذلك قدرتي تتوصل الى تفاهم مع عواطفي ؟ هكذا ، فإنَّ الثقة بالسائق ، وقبول الطريق الذي نأخذه ، سيبدو بقدر كبير خارج سيطرتنا تمامًا كما هي حركة السيارة ذاتها .
وعلى أية حال ، فإنّه لا يتوجب أن يكون من أحد قاسيًا في رأيهِ حيال سبينوزا هنا : أيه محاولة لربط الارادة الحرّة والحتمية تكون مفعمة بالتناقض . ومع ذلك، نبدو أننا نتطلب كليهما : بدون الإيمان بالسببيّة ، فإنّ الحياة ستكون غامضة لا يمكن فهمها ؛ بدون الارادة الحرّة ، ستكون لا تُحتَمل ولا تُطاق . آنذاك ، ربّما يتوجب علينا أن نقبل التناقض ؛ لكن هل حتى هذا في إطار قدرتنا ؟
وقبل ختام هذهِ اللمحة القصيرة حول ما كنّا بصدده ، لا بُدَّ أن نشير الى أنّ سبينوزا يعتبر أنّ الابتهاج والحزن هما العواطف الأساسية ، وهو يفترض أنَّ الحالات العاطفية الأخرى هي تنوّعات واختلافات منها ولها ، متصلّة بأفكار لأشياء خاصة تسبّبها . فعلى سبيل المثال ، الحب هو شعور بالابتهاج _ والكراهية هي شعور بالحزن _ وهذا متصل بفكرة سببها .
وأخيرًا ، من الجدير أن نذكر هنا أنَّ باروخ سبينوزا هو فيلسوف هولندي من أصل برتغالي يهودي سفارادي من اوائل مفكري فترة حركة التنوير في أوروبا ، والنقد التوراتي الحديث ، بما يتضمن مصطلحات الذات والعالم ، حيث جاء ليعتبرَ أحد كبار أصحاب المذهب العقلي في فلسفة القرن السابع عشر . ومع أنَّ سبينوزا غالبًا ما كان عرضةً للاضطهاد والمضايقات باعتباره ملحدًا في أيامهِ ، فإنَّ كتاباتهِ لعبت دورًا مهمًا في تشكيل الفلسفة ، اللاهوت ، والسياسة في القرون المستقبلية . فالفيلسوف الكبير هيغل ، قد زعم أمام معاصريه قائلًا : «إمَّا أنْ تكون من أتباع سبينوزا أو أن لا تكون فيلسوفًا بالمرّة» .
إنَّ فكر سبينوزا ما زال باقيًا مَعْلَمًا رئيسيًا في تاريخ الدستورية الليبرالية ، بكونهِ يزوّدنا بأحد أوضح وأكثر الدفاعات الالزاميّة والملِّحة لحرية التعبير ، الديموقراطيّة ، ووقار واحترام الحياة الفلسفية .