مثلما ينهمل الوابل الغيداق أيّام الشّتاء ثمّ ينقطع ليترك وراءه أجمل الأزاهير وأعطر الورود تزدان بها المروج والخمائل ، ويبعث بين الغياض أنسامًا معطّرة تحمل على أجنحتها للدنيا شذا النّرجس وعبير الأقحوان ، هكذا تُبقي صحبة النّاس الأبرار في حياة المرء نفحات من الذكرى عبّاقةً لا تزول ! والفرق بين هذا وتلك أنّ أزاهير الرّوابي الّتي يزرعها المطر في السّهول والحقول ثم يذهب ، قد تذوي وتيبس ويودي بها وهج الصّيف لتعود إليك من جديد في المطر القادم ! أمّا ذكرى أولئك الأصفياء الأحبّاء فلا يستطيع حرّ الزّمان مهما اشتدّ لظاه في صحاريه أن يقتلع جذورها من سفوح القلب بل يُذكي ضِرامها في القلب بُعد العهد بأولئك الأحبّة ، ولا عجبَ أنْ تعاودني دائمًا نفحات تلك الذّكريات حين أجلس وحدي ، ولا جليس يسامرني سوى الماضي في غضارة شبابه وميعة صباه ، يؤنسني بما في ذاكرته من مشاهد تلك الأيام وأطيافها ، نسترجع معًا ونتذكّر هاتيك الكوكبة من النّاس الطّيبين ، فكان لنا من نِشق ذكراهمُ أنْ فاح القلم وسكب على القلب من نثراته هذه الكأس الطافحة من الناردين والعطر الطّيّب !
هي أيّام لا أحلى ولا أعذب ! قضيتها متنقّلًا بين الجليل بكل مجده وجلاله ، وبين مدينة القدس بكل قداستها وعظمتها من كنائسها ومساجدها وأديرتها وأسوارها ومدارسها وأسواقها ! هي أيّام ولّت لو كان العمر تاجًا لكانت من ذلك التّاج مسبوكَ الذهب وصفيح الماس .! ولو كان قارورة طيب لكانت في تلك القارورة مختومَ الرحيق وفتيت المسك ! ذكريات نفّاحة بكل عبير وأريج يبقى نبض خلجاتها في القلب صوت كلمات خرساء يعيا أن يخطّ بلاغتَها ألفُ قلم ..!
إنّ حكاية ذكرياتي في جامعة القدس تعود إلى عشر سنوات مضت ، وقد جمعتني بالدّكتور سري نسيبة رئيس جامعة القدس في ذلك الحين علاقة التّقدير والمودة ، وأثناء زيارته لي مع أسرته في بيتي في كفرسميع عبّر عن رغبته الشّديدة في أن أدرّس العربيّة في الجامعة ، وكان ذلك عقب صدور كتابي الأخير "ورق ورحيق" لدى مؤسّسة الأيّام في رام الله ، وفي وقت لاحق من السّنة ذاتها أعقبه إلى زيارتي أيضًا بحكم المودّة بيننا عميد كليّة الآداب في الجامعة الصّديق الدّكتور منذر الدّجانيّ وزوجه الدكتورة خلود دجانيّ ثمّ تلاهما الدّكتور العزيز سعيد زيدانيّ نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديميّة آنذاك ، أولئك نفر من أعمدة العلم الّذين خدموا الجامعة بكل إخلاص ولهم الأيادي البيضاء في رفع شأنها وتقدّمها إبّان تأسيسها. ورغم بُعد المسافة بين الجليل والقدس ، ورغبةً في خدمة اللّغة وأبناء شعبنا الحبيب في القدس وضواحيها ، فقد جشّمت نفسي وعْثاء السّفر كلّ أسبوع ، ودرّست هنالك فترة متنقلًا بين الجامعة في أبو ديس وكلّية هند الحسينيّ في القدس .
كانت كلّية هند الحسينيّ أوّل ما جمعتني بأستاذين جليلين من أساتذة اللّغة العربيّة هناك ، أمّا الأوّل فالدّكتور زيدان أبو زياد وكان أيّامئذٍ رئيسًا لدائرة اللّغة العربيّة في الكلّيّة ، وأمّا الثّاني فالأستاذ سامي السّرخي أحد الزملاء في الكلّيّة . كان زيدان رجلًا جليلًا وقورًا ومتواضعًا نقيّ القلب يلقاك ببشاشته المألوفة ، وقد ضرّسته تجربته الطويلة في مضمار التّدريس وأساليبه. أمّا الأستاذ الجليل سامي السّرخيّ فهو إلى جانب رقّته ودماثة خلقه يجمع بين تواضعه وبين وقاره المألوف . ودّعت الكليّة العزيزة بعد حين ، وكلا الرّجلين العزيزين ترك في نفسي أثرًا من التقدير والاحترام قلّما يتركه رجل.!
جادت عليّ تلك الأيّام من ألطافها بمعرفة رعيل من أهل التّربية والتّعليم في القدس ، بين أولئك الأستاذ الصّديق راتب حمد وهو أستاذ لامع بين أساتذة القدس ، أُكبر فيه إخلاصه ووفاءه لطلّابه ، وإذ كان يعمل مرشدًا للّغة العربية في تلك المدارس ، دعاني إلى مركز" إرشاد المعلمين " في القدس ، حيث قدّمت هناك دورة لمعلّمي اللّغة العربيّة في المدارس الإعداديّة والثّانويّة ، وكم كان استمتاعي بتلك الأيام أقضيها بين معلمين أجلاّء ومعلمات جليلات أتَوا من مختلف مدارس القدس وضواحيها ، ما برح أكثرهم إلى يومنا هذا بين الفينة والأخرى يعبّرون عن مودّتهم وعرفانهم !
ومن هناك توالت محاضراتي في مدارس القدس أُقدّمها خدمة لطلّابها ، وكانت أولى تلك المحاضرات قد ألقيتها في جمال اللّغة العربيّة وخصائصها وأساليبها في مدرسة القدس الإعداديّة للبنات بدعوة من مديرة المدرسة الدكتورة سناء العطاري ، وهي قامة شامخة من قامات التّربية والتّعليم في القدس ، وقد عرفتها أديبة ذات قلم مِعطار تُلقي من رياضه أجمل الأزاهير وأعطر الورود . وإن أنسَ لا أنسَ محاضرتي في مدرسة الصّلعة حيث التقيت هناك أستاذة اللغة العربية الشّاعرة الجليلة حليمة السّلحوت زوجة الكاتب جميل السّلحوت وأخت النّاقد إبراهيم جوهر ، وكان يومًا عظيمًا من أيّام اللّغة العربيّة كأيّام عكاظ أو المِربَد . ومن تلك المدرسة بعد أسابيع إلى مدرسة الطّور حيث التقيت معلّم العربيّة هناك الصّديق الأستاذ محمّد السّيوري ، وقد حضر المحاضرة عدد كبير من المعلّمين والمعلّمات ، ومن هناك بعد أيّام إلى جامعة القدس لأشارك في لقاء أدبي جمعني بالصّديق الكاتب المعروف محمود شقير وبالشاعرة السّعوديّة ميسون أبو بكر وغيرها من الكاتبات ممّن حضرن من الأقطار العربيّة.
وفي بيت لحم مهد السّيّد المسيح عليه السّلام ، وبدعوة من الصّديق البروفيسور قسطندي شوملي وهو جِهبذ من جهابذة الأدب في جامعة بيت لحم ، شاركت في المؤتمر الأدبي الّذي عقدته الجامعة تحت عنوان "الأغنية الشّعبية في فلسطين " تناولتُ في محاضرتي هناك "الشّعر الشّعبيّ في الجليل" ، وكم طاب لي في ذلك المؤتمر العامر أن ألتقي كبار الباحثين والمحاضرين ممّن شاركوا من الجامعات الفلسطينيّة.
وتلك ندوة أدبيّة لا أحلى ولا أبهج ، دعاني إليها "اليوم السابع" في القدس للاحتفاء بكتابي الجديد في حينه "ورق ورحيق" ، كانت تلك النّدوة روضة زاهرة غرّدت عنادلها وترنّمت أطيارها على دوحة الأدب ، وقد حفلت بالمشاركين وجمعتْ أقطاب الأدب وأرباب القلم في القدس من نقّاد وشعراء وأدباء ، أذكر بينهم النّاقد والكاتب المعروف الصديق إبراهيم جوهر أحد مؤسّسي "اليوم السابع" والكاتب الشيخ المعروف جميل السّلحوت والشّاعرة حليمة السّلحوت ، والأستاذ الجليل أبو الأرقم موسى دويح أستاذ العربيّة في مدرسة ابن خلدون الثّانويّة ، والشّاعر رفعت زيتون ، والأستاذ المربّي راتب حمد ، والشّاعر بكر زواهرة ، والكاتبة ديمة السّمّان ، والكاتب عيسى قواسمي ، والممثّل صقر السّلايمة ، والمحامي محمد عليان ، والدّكتور الشّاعر وائل أبو عرفة ، وكم سرّني أنْ كانت تلك النّدوة من أمتع ما عرفه النّادي من ندواته ، وأوفرها فائدةً بشهادة أعضائه وبتقدير كلّ من شارك فيها من عشّاق الكلمة . ذلك منتدى أدبيّ بلغ الغاية في رقيّ أعضائه وعلوّ ثقافتهم الأدبيّة، وقد ذكّرني بمجالس الأدب في عهد الانتداب البريطانيّ الّتي كان يحضرها المعلّم الكبير نخلة زريق وإسحاق موسى الحسينيّ ، وإسعاف النّشاشيبيّ ، وخليل السّكاكينيّ ومن زاروا القدس في تلك الأيّام كالأديب اللّبنانيّ جورجي زيدان وبشارة الخوري والشّاعر العراقيّ معروف الرّصافيّ وغيره من أعلام الأدب .
عدت من القدس إلى الجليل ومعي زاد المسافر من التّجلّة والاحترام لأولئك النّاس الفضلاء الّذين زيّنهم الله بأجمل الحلل وأبهى الحِلى من الخصال النّبيلة ، وأين في اللّآلئ أنفس من المحبّة والرّحمة والأخوّة بين النّاس ! وأين في الكون شمس أعظم نورًا من حرف وقلم يبشّران بالسّلام والحبّ والأمل بين بني البشر ! فسلام على أولئك الأحبّاء أينما كانوا ، أبعثه لهم كلّ حين على أجنحة الأنسام من روابي الجليل وخمائله الفِيح مضمّخًا بأريج أقحوانه تعبيرًا عن عرفاني ووفائي لذلك العهد البهيج الّذي غاب عن أنظارنا وولّى ، ليبقى ماثلاً في عينيّ وحاضرًا في شغاف القلب لا يختفي .!