قراتُ وسمعت كغيري من الناس، ما نُشر في وسائل الاعلام وما تداولته شبكات التواصل الاجتماعي مؤخرا عن عزم البطريركية اللاتينية في الاراضي المقدسة، على بيع 300 دونم ارض في الناصرة. كدت لا اصدق هذا الخبر وكدت اعتبره خبرا ملفقا يُقصد به الاساءة الى البطريركية اللاتينية. اقول هذا لا لان قضية بيع الاوقاف المسيحية في ارضنا المقدسة تُطرح لاول مرة. فمَن منّا لم يسمع عمّا اقترفته بهذا الصدد بطريركياتٌ اخرى ارثوذكسيةً كانت ام كاثوليكية وغيرها.. كصفقات او بالاحرى فضائح البيع الهائلة التي قامت بها البطريركية الارثوذكسية في القدس ويافا وبيسان وقيساريا و... وكالصفقات المماثلة التي اقدمت عليها بطريركية الروم الكاثوليك ممثلةً بمطرانية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل، من بيع مفضوح وبيع مقنّع تحت غطاء "التأجير" لفترات زمنية خيالية تعدّت الواحدة منها الف سنة! نعم الف سنة والدليل القاطع على ذلك هي سجلات الطابو الرسمية التي تشير الى تاجير عقارات تملكها كنيسة الروم الكاثوليك في مركز الكرمل في حيفا، حتى 17/4/3018 نعم حتى السابع عشر من نيسان سنة ثلاثة الاف وثمانيَ عشرةَ !! (راجع كتاب "تواقيع على الرمل" صفحة 25).
رغم هذه الاسبقيات الآثمة سيئة الصيت، ما كنتُ لاصدق ان البطريركية اللاتينية في القدس ستُقدم على عمل مذموم كهذا، ذلك لان البطريركية اللاتينية بالذات تُعتبَر امتدادا عضويا لدولة الفاتيكان وبالتالي فهي عضو من اعضاء الجسم الفاتيكاني وجزء لا يتجزأ منه. هذا الفاتيكان الذي كان المسيحيون في العالم سيما العرب المسيحيون في الشرق عموما وخصوصا في بلادنا، يرون به حامي حمى الاوقاف المسيحية وسدا منيعا امام المتطاولين عليها. ولعلّ خير دليل على ذلك هو القصة التي يرويها البعض عن نجاح الفاتيكان في حينه باسترداد دير نوتردام في القدس بعد ان ابطلَ اتفاقية بيع مشبوهة مع مؤسسة صهيونية..
نعم كدت لا اصدق خبر بيع 300 دونمٍ في الناصرة، لكني صدقت بعد ان اطلعت على بيان اصدرته وعممته البطريركية بهذا الشأن، تقول فيه ان البيع جاءَ لتغطية ديون هائلة بمبلغ مئة مليون دولار وان هذه الديون ناجمة عن "سوء الادارة التشغيلية السابقة للجامعة الامريكية في مأدبا في الاردن "، وانها (اي البطريركية) " تنظر ايضا في بيع عدة ممتلكات في الاردن من اجل تسديد بقية الدين..علما بانه لا يوجد ممتلكات كافية في الاردن لسداد الدين"!!... هذا البيان الذي أرِيدَ له ان يكون توضيحيا، فجاء مبهما وغير مقنع ابدا بل مثيرا لمئات علامات التعجب والاستفهام التي تدين البطريركية والفاتيكان ايضا، منها على سبيل المثال فقط: طالما ان خسائر البطريركية اللاتينية غير متأتية عن هزة ارضية اقتصادية فجائية نابعة من قوة عليا كالزلازل او البراكين او العواصف، إنما عن خسائر سنوية تراكمية، فأين إذن الرقابة الداخلية التي كان ينبغي ان تجبّر اليد قبل ان تنكسر؟ و/أو الرقابة الخارجية التي كان ينبغي ان تفرمل او تكبح "سوء الادارة التشغيلية السابقة" للجامعة الامريكية في مأدبا؟!. كما انه (اي البيان) نكأ جراحا في قلبي وذرَّ عليها ملحا حارقا لانه ذكرني ببيانات الرئاسة الروحية لكنيسة الروم الكاثوليك في الجليل وإجاباتها على تساؤلات "جمعية ابناء ابرشية الجليل"، إبان تورط تلك الرئاسة هي ايضا، في ديون مجهولة الاسباب .
وهنا لا بد من التنويه ان "جمعية ابناء ابرشية الجليل" التي كان لي شرف المساهمة في تاسيسها سنة 1989 وقيادتها، قد ضمت مئات الاعضاء من ابناء كنيسة الروم الكاثوليك في الجليل الذين انبروا، في العقد الاخير من القرن الماضي، للدفاع عن الاوقاف من تعديات مَن تنطبق عليهم مقولة: "حاميها حراميها"، حيث كانت تلك الاوقاف تتعرض لعمليات بيع رهيبة بحجة تغطية ديون ناجمة، حسب ادعاءات المطرانية، عن بيت العجزة في عسفيا واوتيل جراند نيو ومطبعة الحكيم في الناصرة وغيرها من المؤسسات التي كان من المفروض ان تكون مربحة او على الاقل قادرة على تغطية مصاريفها.
لا ينكر احد على البطريركية اللاتينية ولا على مطرانية الجليل للروم الكاثوليك وغيرهما من المؤسسات الدينية ، حقَّها بالتعامل بالامور المادية المتأتية عن إدارة مؤسساتهم التربوية والصحية والاجتماعية ايضا. غير ان هذه الادارة ينبغي ان لا تكون ابدا ادارةً مالية مركزية مغلقة سريّة عصيّة على المراقبة وكأنها تحتفظ باسرار نووية أو كانها مزرعة خاصة يملكها البطريرك او المطران المتولي شخصيا.
إن التعامل بالامور المادية بصورة عامة وفي كل سياق، هو قضية اقتصادية صرفة لها اسلوبها العلمي العملي الذي يقوم على ركيزتين اساسيتين متكاملتين: إدارة منظمة وشفافية. الادارة المنظمة تنسفها الفوضى أما الشفافية فلا يمكن تحقيقها في اجواء ادارية مالية فوضوية. الفوضى وغياب الشفافية تكبلان المراقبة لا بل تغتالانها وبالتالي فإنّ غياب المراقبة العلمية الصحيحة عن اي إدارة مالية او دينية بالذات، هي – في احسن الحالات- مدعاة للشكوك والاشاعات والنفور، او كما قلتُ مرارا في السابق، هي تطبيق عملي وترجمة دقيقة للمعادلة البديهية المعروفة التالية: تعامل بامور مالية ناقص مراقبة يساوي فساد.
نعم سيُفهم هذا التعامل وسيدرَّج كفسادٍ على رؤوس الاشهاد حتى لو لم يكن هناك فساد فعلي. ذلك لان النزاهة لا يكفيها ان ننتحدث عنها أو ان نرفعها شعارا، حتى ولا ان نطبقها فقط، إنما ينبغي ان تُشاهد ايضا، لا بل ان تكون ملء العين والبصر، وذلك من خلال دفاتر حسابات منظمة وميزانيات سنوية قانونية مراقَبة واتفاقيات وعقود واضحة غير مبهمة وعطاءات معلنة ومغلفات ردّ مختومة خاضعة لمراقبة هيئة مالية نزيهة.. وذلك إحقاقا للحق وتبرئة للذمة وتطبيقا للنزاهة ومنعا لشكوك قد تُثار وتبديدا لاتهاماتٍ إن اطلِقت تصبح تهما ملتصقة وإدانةً لا تقبل الاستئناف. فهل هناك من يسمع ويتعظ ويذوّت قول السيد المسيح في انجيل متى(27 – 26 : 10): "فإنه ليس من محجوب إلا سيُكشف، ولا مكتوم إلا سيُعلم. وما اقوله لكم في الظلمة قولوه في النور، وما تسمعونه همسا في الاذن نادوا به على السطوح".