يا أجمل بنات الجليل، وأحلى صبايا فلسطين كلّها.. السّاكنة مع لِداتها فوق قمم الجبال وفي أعماق السّهول .. تختال بأجمل حُلّة وتزهو في أحسن طيلسان .. صعدتْ إلى السّفوح، ونزلتْ إلى الأودية .. وتزاحمتْ جموعها في كلّ مرج وبستان وكـرم.. وحطّتْ لتستريح مع أخواتها حول كلّ ينبوع، وفوق كلّ صخرة ..! سلام عليكِ أيّتها الشّجرة المباركة كلّما نزع الفجر بيديه قناع اللّيل عن محيّاكِ الجميل .. وأثمرتْ غصونكِ كلّ عام لؤلؤًا وبلّورًا، واستحالتْ أفنانكِ حبالاً من ذهب .. ونضحتْ فروعكِ بالنّدى المسكوب من رحيق الزّهر بين الخمائل ..!
يا ابنة أمّي وأبي ..! هوذا أنا أتيتكِ ابن ذلك الفلاّح الأبيّ النّديّ الّذي عثر عليكِ في البريّة طفلةً ضائعة تركها أهلها بين الشّوك والصّخور ثمّ ولّوا ..! جائعة ترتجف في الشّتاء، وعطشى تتحرّق في الصّيف .. فرأف بكِ ، ولفّكِ بساعديه وحملكِ على كتفيه مسافات بعيدة، حتّى بلغ بكِ هذا الموضع، وأقام لكِ بساعده وساعد أمّي مهدًا وثيرًا، وتعهّدكِ كلّ حياته بالعطف والحنان .. حتّى بلغتِ أشُـدّكِ وخرجتِ إلى الدّنيا خير ما أنجبت الأرض من رحِمها في هذا العالم.. ! فتيهي زهوًا .. وميسي جَذلاً كلّ صباح، واختالي في الرّبى تسبيحًا للـّذي اختصّكِ بالقداسة والجمال في هذا الكون البديع!
أنتِ لا تدرين يا أختاه كم أُحبّ أن أضمّكِ إلى صدري ! وأداعب ذوائب شعرك بيدي ..! وليتك تعلمين أنّني ساعة أضمّك بين ذراعيّ أضمّ بكِ أبي وأمّي ..! وأشمّ في جذعك وفروعك عطر ذلك العرق الذي غسلاكِ به أيّام صباك الجميل..! لا تتعجّبي أنّني يوم أجيء إليكِ عند الصّباح، وأُنفِّر الأطيار التي تنام في صدرك .. أسمع معها أطيارًا أخرى تنطلق بكلّ أسرابها من بين أوراقك وغصونك، إنّها لهاث المحراث ونبرات أبي وصوت أمّي الّذي لا يبرح سمعي منذ ذلك العهد الحبيب..!
سخروا بكِ أيّتها الشّجرة المباركة، إذ دعوكِ مرّة شجرة السّلام المفقود في الأرض..! وإخالك ما زلت تذكرين يوم غمرك الطّوفان، وقد حسبوا منذ ذلك الحين أنّه ارتدّ إلى الأبد عن هذا الكوكب .. ألا تعسًا للبشريّة العمياء الّتي لا تدري أنّ الطّوفان ما زال يغمر ناسها من قديم الحقب.. وأنّ الأنام يمشون تحت البحر في الشّوارع.. ومدنهم وقراهم سفن ضخمة مخرت في الموج المتلاطم ثمّ سقطت بهم من ثقل أحمالها في أعماق اللّجة..! وقد أصبحوا أسماكًا منوّعة الأجناس يأكل بعضها بعضًا..! بلقمة واحدة يأكلون شعبًا.. وبجرعة واحدة يشربون دماء أمّة ..! ويا فناء العالم .. ما أتى على الكون قرن إلاّ معه طوفان جديد يغمر الطّوفان تحته..! حتّى طما الدأماء وبلغ سطحُ الماء منازلَ الكواكب في السّماء.. هناك، في ذلك الموضع الرّهيب، ويا للفظاعة، لن تكون نجاة لأحد من البشريّة إلاّ للّذين لهم من الإيمان مقدار حبّة خردل واحدة، تجعلهم يمشون على الماء، وينجون بأنفسهم من الموت الأبديّ السّابح في عباب اليمّ..!
..كنتِ أيّتها المباركة أوفَى للوطن، وأبقى على العهد من كثير من أبنائه الأحياء في الأرض... كلّ شتاء تقطّع السّيول بأنيابها عروقكِ، وتجتمع العواصف حولكِ، وتجتهد بسواعدها أن تقتلعكِ.. ويسدّ الثّلج أنفاسكِ بستائره البيضاء .. لكنّك لم ترضي إلاّ أن تبقي شامخة في موضعكِ، وبقيتِ وفيّة لترابكِ وأُسوة حسنة لأهليك، في زمن عزّ الأوفياء لتراب الآباء وقَلّوا، ويبقى احتمال الشّدائد والثّبات على عورات الزّمان من أجل الأوطان أنبل القيم التي يحملها المرء، وما أقلّ الّذين يفعلون ذلك في هذا العالم...!!
...ما أبلغ حديث خطبائكِ ، وما أجمل نشيد شعرائكِ الّذين يقفون كلّ صباح على منابركِ، من كلّ بلبل صدّاح وهـزار غرّيد..!! أولئك سوّتهم يد الله وحدها بالمواهب ليكونوا هم الشّعراء والأدباء في طبعهم وفطرتهم، ويُغنّوا للجمال والمحبة، ويغمروا بأنغامهم أديم الأرض..! والويل من النّاس للـّذي يلبس أثواب البلبل وهو غراب .. ويضع لنفسه أجنحة ليطير في الجوّ وهو حجر ..! ويتقنّع بملابس الزّهرة الجميلة وهو شوكة .. ويزعم أنّه سلطان الكلمة الخالدة، والكلمة الخالدة تأبى أن تقبله وصيفًا في قصرها.. ذلك لأنّ المواهب، تلك التي نراها عبر العصور تنزل من السماء على المستحقّين بهيئة حمامة، هي وحدها التي تصنع الشّعراء والأدباء في هذا العالم..!!
ما أكرمكِ ..! تسقيننا كلّ العام شرابًا من شرايينكِ .. وكؤوسًا من دمكِ .. وذلك القنديل الذي تجاوز عمره آلاف الأعوام، ما زال طفلاً لم يعرف فطامًا من رضاعتكِ في الأكواخ والمعابد ..! ما أسمى أخلاقكِ ..! وأين في الأرض أوسع من صدركِ..!! يجلدك أهلوك عند القطاف بالعصيّ بغير ذنب، ويوسعونك تكسيرًا وتجريحًا، لكنّكِ مع ذلك تعطين من أحشائكِ أحسن الأجنّة لجلاّدكِ..! وطوبى في هذا العالم لمن يكون مثلك عاليًا عن الأحقاد، ويأخذك قدوة حسنة له بمجازاة السّيّئة بالحسنة، إذ تردّين بثمراتك اليانعات على من يجلدك .. ويا بشرى من يكون له محبّة مثل محبّتك، ويضحّي بأغلى ما لديه من أجل السّلام بين النّاس إلى يوم يلقى ربّه في الحياة الأبديّة الخالدة ..!!
...اِطمئنّي يا ابنة أمّي وأبي ولا تعذُليني يومًا ..! إنّ لكِ عندي موعدًا كلّ صباح ما حييتُ..! وإذا كانت نفسكِ مثل نفسي اشتاقت حقًّا إلى الأحبّة الـّذين ذهبوا ولم يرجعوا .. فاعلمي أنّ الـّذي يأتيكِ كلّ يوم هو أبي وأمّي السّاكنان فيّ .. والعائدان إليك من أعماق التّراب في ثيابي .. فلاّحًا أحمل على كتفي ذلك المحراث العجوز وفاءً لهما ولكِ ولتراب الوطن الحبيب ..! ليتكِ تعلمين يا أختاه أنّ هذا الفلاّح الذي يأتيك كلّ صباح فيّ .. وإن رأيتِه يضع يده على المحراث أمام عينيك، وتحت غصونك وفروعك، يبقى أحبّ محراث إلى قلبه في هذا العالم، قلم بين أصابعه يحرث به حقول الحياة الفسيحة، ويُلقي وراءه بذار المحبّة والسّلام بين البشر...!!!