دواعي توترِ سليم مصطفى(ابو صبري) وقلقِه سرعان ما انكشفت عندما إنفضَّ الديوان وبقي هو ووالدي لوحدهما. لقد تبيّن لوالدي أن زيارة صديقه الحميم هذا لبيتنا في فسوطة، في صيف 1948، هي زيارة وداعية لأنه قد قرّر تركَ ترشيحا والرحيل الى لبنان، إحتجاجا على قيادة جيش الانقاذ وبعض المتعاونين معها ممّن نصَّبوا انفسَهم حماةً للوطن وحراسا للقضية، فلم يكتفوا برفض اقتراحه بشأن محاولة تدارس وسيلةٍ تضمن بقاءَ الناس في بيوتهم واملاكهم وعدم تشريدهم ، بل قاموا بالمزايدة عليه والتطاول على كرامته والطعن في وطنيته واخلاصه، والتمادي إلى درجة تخوينه والإعتداء على حرمة بيته، متجاهلين وغير آبهين وربما غير مدركين أن البلاد، كل بلاد، تُحدَّد هويتُها من خلال هوية سكانها، وان البلاد أو المنطقة التي يُقتلَع منها سكانُها او ينزحون عنها، لا تفقد سكانها فقط بل هويتها ايضا..
حاول والدي بكل ما حباه الله به من قوة إقناع أن يطيّب خاطرَ صديقه تمهيدا لإقناعه بالعدول عن رأيه، إلا أنَّ الاخير بقي مصرًّا على موقفه، واثقا برؤيته بأنّ هكذا قيادة جاهلة، غاشمة، مستبدة وانغلاقية ستقود ما تبقى من الوطن الى الهاوية، ومعبّرا عن قناعته بقصةٍ رمزية باتت اليوم معروفةً للجميع بصِيَغٍ مختلفة، عن الفأر الذي هبَّ لإغاثة الأسد سيّد الغابة الذي وقع في شبكةٍ كبيرة نصبَها الصيادون. أخذَ الفأر بِقَرْط (بِقَضم) حبال الشبكة... وما إنْ تحرّر الاسد من الشبكة ووقف على اقدامه حتى سارع الى مغادرة تلك الغابة وهو يقول: "محل هليّ فيّو القُرقُط بحلّ وبربط، واللهِ ما أنا باقي فيّو"...
وقف ابو صبري امام دارنا في موقع يطلّ على ترشيحا، ملوِّحا بذراعيه قائلا بصوت تخنقه الدموع: "بخاطرك يا ترشيحا"، وملقيا بنفسه على كتف والدي... عناقُ الرجلين واحتضان كل منهما للآخَر، بات مشهدا يهزّني اليوم كما هزّني قبل ما يربو على سبعة عقود من الزمن، ويذكرني بمقولة: "الرجال لا يبكون، وإن بكوا فدمعُهم يكون دما"..
غاب أبو صبري عن ترشيحا ومنطقتها، لكنّه لم يغب ابدا عن بال والدي الذي طالما سمعتُه يعرب عن تفاؤله بعودة صديقه، حتى بعد ان سقطت ترشيحا ومنطقتها في اواخر شهر تشرين الاول سنة 1948 وهربت فلول جيش الانقاذ عن طريق شارع العزيمة (شارع القاوقجي على الخرائط الاسرائيلية) فاضحى اسمه الشعبي الشائع المتداول حتى اليوم في فسوطة وغيرها من قرى الجليل، شارع الهزيمة بدلا من شارع العزيمة، وسيطر الجيش الاسرائيلي على خط الحدود الذي رسمته اتفاقية سايس بيكو سنة 1916، بين جنوب لبنان وشمال فلسطين، واضحت العودة الى الوطن تُعتبر تسلّلا يُعاقِب عليه القانون العسكري.
تفاؤل والدي بعودة صديقه كان دائم التجدّد. فما إن يخبو قليلا بسبب الاوضاع الامنية، حتى يتجدد ثانية مع وصول دفعةٍ جديدة من العائلات الفلسطينية العائدة الى الوطن، وكأنّ عودتهم تلك كانت تشحن تفاؤلَ والدي بطاقةٍ جديدة. بعض تلك العائلات كانت تصل الى قرية رميش في جنوب لبنان لتستعين هناك بمرشد لبناني محلي يقودهم مشيا، عبر الحدود، الى فسوطه. كان المرشد يتركهم عند المدخل الشمالي لفسوطة قائلا لهم باسلوب الغش والخداع: "توجّهوا الى بيت المختار عيد الخوري، وهناك تُوزَع عليكم هويّات اسرائيلية". هذه الخدعة كانت تنطلي على العائدين، فيصلون الى دارنا متعبين، منهكين ومصابين في أكثر من موقع في اجسادهم ولا سيّما في اقدامهم. ولطالما سمعتُ والديَّ رحمهما الله، يرحبان بالعائدين ويقدمان لهم الاكل والشرب، كما رأيتُهما يبذلان كل جهد ممكن لتخفيف معاناتهم جسديا ومعنويا.
وهكذا باتَ طرقُ بابِ بيتنا ليلا أمرًا مألوفا ومميّزا بطَرقاتٍ خفيفة يستوجبها الحذر ويفرضها ترددُ الطارقِ وخجلُه، الى ان كانت ذات ليلة عندما سمعنا طَرقاتٍ عاليةً لا يُقدم عليها إلّا مَن كانت له دالّةٌ على والدي. فمَن كان الطارق يا تُرى؟ .. لم يراعِ والدي في تلك اللحظة ابسط قواعد الحذر المطلوبة، فلم يسأل: "من الطارق؟"، إنما سارع لفتح الباب.. لا، لم يرَ امامه صديقه سليم مصطفى كما توقّع، او كما هيّأ له تفكيرُه الرَغَبيّ (Wishful thinking)، لكنه رأى شابا بدت سحنتُه، رغم ضوء قنديل الكاز الخافت، مألوفةً له. انه ولا شك محمود الذي كثيرا ما كان يراه في ديوان ابي صبري في ترشيحا..
بعد استراحة قصيرة تخلّلها تناول وجبة خفيفة وكأس من الشاي، قال محمود لوالدي، قبل ان يهمَّ واقفا، بلهجةٍ لا تخلو من لهجة اعتذار يبديه عادة ضيفٌ مستعجِلٌ: "إنتدبني عمي ابو صبري لمهمة شخصية عاجلة تقتضي دخولي الى ترشيحا وخروجي منها تحت جنح الظلام". سكت محمود لحظة ريثما يُدخل يدَه في جيبه اليمنى، ثم تابع حديثه: "كما كلّفَني ايضا ان اعرّج عليك لابلغكَ سلامه واسلّمكَ هذه الامانة هديةً منه اليك"... تناول والدي من يد محمود صُرَّة قماشٍ صغيرة. لم يستفسر عن محتواها ولم يبادر الى فتحها لئلا تلهيه، كما يبدو لي، عن توديع ضيفه متمنّيًا له التوفيق والسلامة...
منظر الصُرّة وملمسها من الخارج كانا مثيرين للإهتمام. لقد كانت عبارة عن كيس مخمليّ يحتوي على كرات صغيرة صلبة. سارع والدي إلى فكّ الخيط الذهبي المحيط بفتحة الكيس، فانكشفت بداخله مسبحة.. ما ان تناولها وتحسّسها وامعن النظر فيها، حتى قال بلهفة: "إنها مسبحة ابو صبري بشكلها ولونها وشُرّابتها"... احتضنَها بين كفّيه إحتضانَ من لا يريد ان تفلتَ منه. بعثت في قلبه أملا وفي نفسه تفاؤلا. بقيت ملازمةً له فاصبحت جزءًا لا يتجزأ من طلّته وحضوره أينما كان. لم تفارقه حتى في أيامه الأخيرة وهو في المستشفى، فاردتُها ان تبقى معه الى الابد..
قبل مواراتِهِ التراب، وهو مسجّى في نعشه، وضعتُها بين يديه المحبوكتين على صدره، قائلا لمن حولي: " متفائلا ماتَ أبي "...