ما أن أُعلِنَ عن انكماش الموجة الاخيرة من الكورونا، وعن تخفيف الإغلاق، وإذ بصديقي صالح الزيّات يهاتفني داعيا ايّايَّ لزيارته في عكا، مساء يوم الجمعة 30 تشرين الاول 2020. إعتذرتُ بلهجةٍ توخيتُها جادةً، قائلا له: "متأسف، عندي جلسة برلمان في ساحة النجمة في حيفا". سكتُ لحظةً ثم تابعتُ بضحكة كادت تكون مسموعة: " شو رأيك تِنْظَمّ إلنا هاي المرة كمان، ولو بصفة مراقب؟". سمعتُه يضحك بصوت عالٍ، لانه كان يعرف ان المقصود بالبرلمان، هو اللقاء الاسبوعي اللطيف المرح الذي دأبتْ على عقده، قبيل عهد الكورونا، كوكبةٌ من اصدقائي المتقاعدين، كما كان يعرف أنّ "ساحة النجمة" في حيفا، هو لقب، ربما بايحاء من ساحة النجمة في بيروت ، كان قد اطلقه اعضاء "البرلمان" على الساحة المرصوفة الواسعة المرصَّعة بنجمةٍ كبيرة من الحجارة الملونة، في مركز المتنزَّه الجميل الطويل الممتد بمحاذاة الشاطيء الغربي لحيفا...
أجل عاد "البرلمان" بعد إنقطاع طويل فرضتْه جائحة الكورونا، ليلتئم بكامل نصابه الحيفاوي معزَّزًا بمشاركة صديقي صالح الزيّات، ومنتهِجًا كالعادة اسلوب غيابِ جدولِ اعمالٍ مسبق، تاركا لاحداث الساعة فرضَ نفسها على "طاولة البحث".. فلعبَ التزامنُ دوره، واضحت اخبار معركة انتخابات الرئاسة الامريكية المرتقبة (3/11/2020) سيدةَ الموقف ونقطةَ البحث المهيمِنة المقزِّمة لاي حديث إجتماعيّ ترفيهيّ مألوف...ابتدأ النقاش هادئا ثم اخذ يحمى ويحتدّ عندما حاول أحدهم أن يقارن بين المرشَّحَين: دونالد ترامب وجو بايدن وان يفاضل بينهما من وجهة نظرٍ فلسطينية، مفضِّلا جو بايدن.. فقال آخرمتحفظا: "المستجير بعمرو عند كربته/ كالمستجيرِ من الرمضاء بالنار" ثم اخذ يستعرض الإدارات الامريكية السابقة، ومواقفَها التي مهما تباينت إلا انها تبقى عبر الزمن متفقةً مع نهج الحكومات الاسرائيلية المختلفة وداعمة بل منحازةً لها غير آبهة للحقّ الفلسطيني..". هذا الحديث جعلني اتذكر قصة فؤاد البياضي، فقررت ان أرويها لاعضاء "البرلمان" عساها تُمتِّعُنا بلحظات ترفيهية نحن بامسّ الحاجة اليها وتريحُنا من تشنّجات السياسة وتخفف من منسوب التوتر الذي اخذ يخيّم على لقائنا، سيما عندما حاول أحد المشاركين في اللقاء ان يحمّل الطرف الفلسطيني بعض المسؤولية عمّا آلت اليه الاوضاع...
يقول الراوي ان فؤاد البياضي ابو عماد من دير القاسي(قرية مهجَّرة الى الجنوب من فسوطه) قرر في ثلاثينات القرن الماضي، ان يقوم، بزيارة إبنتيه: مجيدة وعائشة. الاولى متزوجة في تربيخا(قرية مهجرة متاخمة للحدود الشمالية الى الشرق من راس الناقورة) والثانية في كويكات(قرية مهجرة في سهل عكا). قالت له إبنتُه مجيدة عندما سألها عن احوالها، ان زوجها الذي يعمل في إنتاج الفحم النباتي، قد بنى قبل بضعة ايام مَشْحَرَةً ، وان نجاح هذا المشروع مرهونٌ بوضع الطقس. "فاذا سقط المطر" قالت مجيدة لوالدها: "سنموت جوعا يا يابا، لان المَشحرة ستخرب ويذهب تعبنا سدى". بينما الثانية (عائشة) قالت له، ان زوجها فلاح، ولقد زرع ارضه عفيرا (اي بذر الحبوب قبل سقوط المطر) وبالتالي "إن لم تسقط الامطار ستموت البذور ويخرب الموسم ونموت جوعا يا يابا"...وهكذا عندما عاد ابو عماد الى بيته في دير القاسي، وسالتْه زوجتُه عن احوال البنات، قال لها :"والله يا ام عماد، اذا الدنيا شتَّت ابكي، واذا صِحْيَت ابكي"...
ضحكَ اعضاءُ "البرلمان" فتوهمتُ ان مجرى الحديث سيتغير وان اجواء اللقاء ستستعيد صفاءها، غير انَّ أحدهم والملقب تحبّبًا ب "محراك الشرّ" أبى إلا أن يتابع النقاش، مدّعِيا "ان المرشَّحَين مختلفان وان افضلهما فلسطينيا هو ترامب بالذات، ذلك لان جو بايدن كان نائبا للرئيس اوباما، وان ادارة اوباما ، كغيرها من ادارات الرئاسة الامريكية، كانت موالية لإسرائيل" ومضيفًا: "ولعلّ خير دليل على ذلك هو الارث الهائل بمبلغ سبعة وثلاثين مليارد دولارا الذي تركته تلك الادارة(إدارة اوباما) لاسرائيل، في حين ان ترامب فرض على اسرائيل قبول مبدأ اقامة دولة فلسطينية الى جانبها..". هذا الحديث كان كفيلا بشحن الاجواء من جديد وأستثارةَ غضب بعض اعضاء "البرلمان" الآخَرين وجعلهم يعربون عن استخفافهم بخطة ترامب والحلّ الذي يحاول فرضه على الفلسطينيين..
كنتُ اتابع الحديث باصغاء ملتزما بمبدأ "إذا كان التكلّم مهارةً فالإصغاء فنّ". ولكن عندما سمعتُ احدهم يصف كيان الدولة المقترح على الفلسطينيين "بأنّه لا اكثر من لعبة اولاد صغار" ضحكتُ لاني تذكرت نادرة لي مع صديقي مرشد فقررت ان ارويها لأعضاء "البرلمان" عساها تلطف الاجواء وتخفّف الضجر الآخِذ بالتراكم على وجه صديقي صالح الذي كان يتطلع الى لقاء لطيف مسترخٍ فوجد نفسه فيما يشبه جلسة عمل متوترة صاخبة:
صديقي مرشد هو المحامي مرشد طنوس ابو غسان الذي كانت وما زالت تربطني به اواصر صداقة متينة منذ فترة دراستنا في الجامعة العبرية في القدس في ستينات القرن الماضي. وكما جمعتنا القدس دراسةً جمعتنا حيفا فيما بعد مواطَنةً وعملا : هو في مكتب كبير محاميا وانا في دار المعلمين العرب محاضرا ومرشدا تربويا، فكان من الطبيعي ان يكون مرشد موَّكَلي في القضايا التي تستلزم خدمات محاماة.. وهكذا لم اتردّد ان اكتب اليه حتى اثناء اقامتي في لندن (1981 -1984) مستفسرا عن التطورات الاخيرة في ملف معيّن ومتمنيّا عليه متابعة الموضوع وايجاد الحل المناسب رغم تعقيدات الملفّ المعروفة لكل منّا، كما لم انسَ ان اذيّل رسالتي تلك بملاحظة هامةٍ نصُّها: "أنا طبعا على أتمّ الاستعداد لتحمّل تكاليف اتعاب المحاماة كاملة"...
بعد نحو اسبوعين وصلتني من مرشد رسالة جوابية، يسهب فيها بالشرح والتفسير ويزفُّ الي بشرى تسوية الموضوع الشائك الذي كان معلّقا، مضيفًا في نهاية رسالته: "أمّا بشأن اتعابي كمحامٍ، أنا اكتفي بسيارة رولز رويس (Rolls Royce) جديدة...".
سعدتُ برسالة مرشد وضحكت كثيرا عندما قرأت ملاحظته الاخيرة. قررت ان اجاريه في مزاحه. توجهت صباح اليوم التالي الى احد اكبر محلات العاب الاولاد في لندن، أعني الى مجمّع هامليس (Hamleys) المعروف الكائن في شارع ريجينت((Regent Street. اشتريتُ مجسّما راقيا للسيارة المطلوبة باللون الازرق، وهو اللون الوحيد الذي كان متوفرا آنذاك في المجمَّع. وضعتُ المجسَّم داخل علبةٍ قمتُ بارسالها كطردٍ بريديّ مسجّل، الى مرشد على عنوان مكتبه في حيفا، ولكن ليس قبل ان ارفق معها ايضا رسالة شكر وتقدير ذيّلتُها بما يلي: ".... أمّا الجملة الاخيرة في رسالتك يا عزيزي مرشد، فهي حقيقةً مسكُ الختام وبالتالي فهي تستحقُّ ردّا خاصا: (اولا) Rolls-Royce وتكرم عينك يا أبا غسان. والحقيقة: غالٍ والطلب رخيص... (ثانيا) سيارة ال Rolls Royce مرفقة بهذا وتنطبق عليها، كما ترى امامك، كافةُ المواصفات التي ذكرتَها: النوع، الموديل وحجم المحرك... لكنْ، سامحك الله، لم تذكر في رسالتك شيئين إثنين: اللون وحجم السيارة ذاتها. ولذا رأيتُ من المناسب أن أتصرف بالامر لوحدي. فبالنسبة لللون: فان اللون الابيض اختطفَه ملوكُ الذهب الاسود، واللون الاسود اختطفته ايادي من خيّم الثلج في بلادهم.. ولذا لم يبقَ في السوق سوى اللون الازرق كزرقة سماء بلادنا.. أما بالنسبة للحجم: فلقد قررت ان ارسل اليك حجما يتناسب عكسيا مع حجم قيمتك في نظري. فإذا أعجبتك "السيارة"، تمتّع بها يا عزيزي انت والعائلة وتبحبح.. اما اذا لم تعجبك فاعتبرها لعبةً يلهو بها راني الصغير مع حبنا الكبير له ولكم جميعا..".
ضحك "اعضاء البرلمان" وانفرجت اساريرهم، وبعد ايام قليلة حُسمت معركة الانتخابات الرئاسية الامريكية، لكن السؤال حول مستقبل القضية : "دولة؟ لعبة؟ أم ماذا..؟" بقي مفتوحا ينتظر إجابة.. فهل من مجيب؟