هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من الحكايات والنوادر والقصص التي تحمل في طياتها صورة عن مجتمع يكافح جاهدا من أجل البقاء والصمود، في ظل أوضاع اجتماعية وسياسية وفكرية معقدة. وفيها نكهة من أيام تحمل الكثير من الحزن والأسى، والكثير من شيم آبائنا وأجدادنا التي ما زال المجتمع يفاخر بها. تعكس بعضها الوضع التعليمي المتدني، وشظف العيش والبحث عن لقمة الأولاد، وأخرى تعكس صورة لما كان سائدا من أفكار ومعتقدات شغلت مجتمعنا العربي على مدار سنوات طويلة.
الأستاذ الدكتور حاتم خوري مولع بالحديث عن "أيام زمان"، حين كانت هناك أرض طيبة يسكنها أناس طيبون يحيون من خيراتها، ومن جنى أيديهم، حتى حلت تلك النكبة التي جعلتهم، بين ليلة وضحاها، يفقدون أرضهم وبيوتهم ويتفرقون أيدي سبأ. إنّ التشبث بهذه الذكريات وبهذا الماضي وإعادة النظر فيه لهي مهمة عالِم الاجتماع الذي يسعى إلى إيصال رسالة إنسانية، مدركا أنّ تسليط الضوء عليه إنما هو كشف عميق لما يحدث اليوم. وأما طمر الماضي وإخفاؤه فهو نوع من الخيانة للحاضر وتشويه له. فما يحدث اليوم في أرضنا، وفي بلادنا وداخل مجتمعنا إنما هو محصّلة ما كان في الماضي القريب.
لا يكتب حاتم خوري تاريخ هذه البلاد، فهو ليس مؤرّخا ولا يدّعي ذلك، فالتاريخ يحتاج إلى مستندات ووثائق، ومع ذلك فإنّ هذا النوع من الكتابة يوثّق حياة مجتمع في سيرورته وصيرورته في العقود الأخيرة، وتحديدا في العقود السبعة الأخيرة. وهو بذلك يتابع برنامجه الذي بدأه في كتاب "ماسيّات" (2017)، بعد أن بلغ من العمر ما يسمح له بأنْ ينظر إلى الدنيا نظرة عميقة تنمّ عن تجربة طويلة وثقافة واسعة، مجنّدا ذاكرته الغنيّة ورصيده الثقافي في أكثر من لغة. فقد فتحت له دراسته الأكاديمية باب الاطلاع على ثقافة إنجليزية غنيّة، بعد أن أمضى بضع سنوات من شبابه ينهل العلم من إحدى جامعات بريطانيا، فضلا عن عمله في حقل التدريس الأكاديمي فترة طويلة من عمره في الكلية العربية في حيفا.
يثبت الكاتب مرة أخرى ما يقوله المختصون في مجال العلوم الاجتماعيّة حين تحدّثوا عن المكان وعن أهميته في بناء شخصيّة الفرد، خاصة في السنين الأولى من عمره، فبالرغم من أن خوري قد قضي معظم سني عمره في مدينة حيفا، إلا أنّ القرية التي ولد فيها ظلت تربض في الذاكرة ينهل منها حينما يشاء، فتنقاد له وتزوده برصيد فلاحيّ غنيّ، حتى حين يتحدث عن المدينة، وعن الغربة في "بلاد الإنجليز".
يلفت نظر القارئ أنّ الكاتب يستهلّ كتابه بقصتين؛ "هناك في جورة الذهب"، و"حليمة"، يبذل فيهما مجهودا أكبر من غيرهما من القطع السردية، موظّفا الوسائل الفنيّة للقصّة القصيرة الحديثة، والتقنيّات التي تساعد المتلقي على متابعة القراءة متشوقا لمعرفة النهاية. ويقيني أنه جعلهما في مستهل كتابه لإدراكه التام أنهما مغايرتان عما جاء في بقية الكتاب، من ناحية فنّيّة، لا من ناحية الغرض.
تدور أحداث القصة الأولى أيام النكبة مباشرة، في شماليّ البلاد عند الحدود اللبنانيّة، أما الثانية فتمتدّ أحداثها على فترة زمنية أطول، يمهّد لها الكاتب بدءا من الانتداب البريطاني وحلول النكبة في مدينة حيفا والهجرة منها نتيجة تردّي الأوضاع. تستحق هاتان القصتان تخصيص دراسة منفردة نظرا لتميّزهما عن بقيّة ما جاء في الكتاب لأنّهما، برأينا، تنتميان إلى عالم القصة القصيرة، فيما تنتمي بقية المقطوعات إلى النوادر والحكايات والمذكرات.
هذه القصص والنوادر والحكايات، في مجملها، تعكس فضاء بلادنا، بحيث يمكن للقارئ أن يتعرّف على جغرافيا بلادنا، شكلا وصورة، والاطلاع على طبيعتها بكل أبعادها، وعلى أسماء قرى باتت في طيّ الكتمان، وعلى أسماء شوارع وحارات في مدننا وقرانا محتها الأيام والسنون، وغيّبتها سياسة مدروسة تعمل على تغيير الصورة وتبديل الأسماء ومحو الذاكرة. ولنا على ذلك أمثلة عدة منها ما يلي: "استقر العروسان الغضّان في شقة شماليّة مستأجرة في الطابق السادس من عمارة آل سلام والقائمة عند نقطة تلاقي شارع ستانتون (حاليا شيفات تسيون) وشارع الملك جورج الخامس (حاليا هَمَجينيم) وعندما وقفا بعد عودتهما من شهر العسل، في أواخر صيف 1946، على شرفة تلك الشقّة تراءت لهما حيفا بأجمل صورها. فبدا أمامهما شارع يافا وشارع الملوك والميناء وبحر يحتضنه الخليج، وفنار عكا ورأس الناقورة... وعلى يمينهما ساحة الحناطير وجامع الجرينة وبرج الساعة وجامع الاستقلال وحارة الكنائس...".
يحرص الكاتب على نقل قصص وحكايات من أرض الواقع، فيقوم بروايتها معتمدا على السرد القصصي في مفهومه الفنيّ القريب من الشكل الموباساني التقليدي، حيث يقوم القاص عادة بالتمهيد للحدث من خلال إبراز المكان والزمان وربطهما الوثيق بالشخصية المركزية، ثم يتابع في سرد الأحداث في تطورها وارتقائها عبر الزمن من الماضي نحو الحاضر لتكتمل الأحداث عند نهاية واضحة المعالم. فإن كان دارسو القصة والرواية من أمثال عبد المحسن طه بدر في مصر، وإبراهيم السعافين في بلاد الشام وغيرهما قد تحدثوا سابقا عن رواية التسلية والتعليم، فإن هذه القصص تندرج تحت هذا المسمى، لأنّ الدكتور حاتم خوري لا يدّعي أنّه يعمل على خلق أسلوب قصصي جديد لم يعتمده السابقون، بل إنّه يمزج بين الحكاية الشعبيّة الفلسطينيّة وبين القصّة في صورتها الحديثة بهدف التوثيق والتعليم والمحاورة مع الذات ومع الآخر.
تثبت هذه "القصص" أنّ هناك شعبا قد عاش هنا يصارع من أجل خلق مجتمع يحاول أن يضع رجليه في ركب الحضارة، وأن يبني مجتمعا مدنيّا يعي أهمية الماضي، ويدرك أنّ الحاضر هو ابنٌ لذاك الماضي، يمتزجان معا كي يكون هناك مستقبل أكثر جمالا. فهل هذا يعني أن الدكتور حاتم خوري يقوم بكتابة "سيرة ذاتية" أو "سيرة غيرية"؟ أم أنه يقوم بجمع حكايات قرأها أو سمع بها من أفواه الناس؟
ما نستطيع التأكيد عليه أن هذه القصص والحكايات والنوادر، أقرب ما تكون إلى التوثيق، لكنها ليست كذلك، لأنها تعتمد، في غالب الأحيان، على واقعة حقيقية يؤكدها ذكر تواريخ معينة وأماكن محددة بعينها، لكن مما لا شك فيه أنّ الكاتب قد مزجها ببعض الخيال فضلا عن اعتماد التشويق من خلال أسلوب فتح "الفجوات".
لفت نظرنا الغنى اللغويّ وحفاظ الكاتب على أصول اللغة السليمة، رغم أن الدكتور حاتم خوري ليس متخصّصا في مجال اللغة العربية، ومع ذلك فهو يجيد السرد بلغة سليمة تكاد تخلو من العثرات. ولو أراد حاتم خوري أن يكتب قصة فنيّة لفعل ذلك بمهارة عالية، لكنّه آثر أن يكون حكّاء لا قاصّا، محافظا على مسافة قريبة من مقوّمات القصة في اعتمادها على حدث لافت مؤطّر بزمان ومكان، وعلى شخصيّات قادرة على محاورة القراء على اختلاف مشاربهم ومستويات ثقافتهم.
نؤكد على أنّ حاتم خوري يساهم مع كثير من كتابنا الفلسطينيين، من أبناء جيله، الباقين هنا فوق ثرى هذه البلاد، في ترسيخ صورة القرية الفلسطينية؛ فالقرية بكل مركباتها، وبكل ما تحمله من أبعاد ليست مجرد نوستالجيا، ولا مجرد حنين إلى أيام مرت وانقضت، بل هي تأكيد على هوية تنخر عميقا في عظامنا لا يستطيع الزمن، مهما طال، أن يمحوها من الوجدان. فالقرية بأزقتها وطرقاتها وبيوتها وحواكيرها وحكاياتها هي كيان عامر وثابت وأزليّ.
د. رياض كامل
* مقدمة كتاب "جورة الذهب" للكاتب الدكتور حاتم عيد خوري، مكتبة كل شيء، 2020.