بقلم : الدكتور منير توما - كفرياسيف
يعتبر الأديب والكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي (1910 – 1828) الذي له الكثير من الأعمال الأدبية العظيمة وابرزها رواية «الحرب والسلام» ورواية «آنا كرانينا» ، وكما يقول الكاتب المصري التقدمي المعروف سلامة موسى أن تولستوي كان طيلة حياته ضمير أوروبا وذلك في فترة النصف الثاني للقرن التاسع عشر ، كما كان المهاتما غاندي منذ 1920 إلى 1948 ضمير الهند والعالم . ويضيف سلامة موسى أنّ تولستوي وغاندي كانا صورتين لشخص واحد ، هما صورة الأستاذ وتلميذه . ولقد حاول غاندي أن يُنَفّذ آراء ومواعظ تولستوي .
لقد كتب تولستوي في مذكراته آنذاك أنّه يؤمن بأنّ كل شاب يجب أن يكون له هدف في الحياة ، وأن يكتشف هذا الهدف في وقت مبكر قدر المستطاع مُتبّعًا نظامًا معينًا لإنجاز وتحقيق هذا الهدف .
ومن المعروف في تاريخ تولستوي شخصيًا أنه اصطدم بالكنيسة حيث تم طرده وابعاده عنها لآرائه المتعارضة معها . كذلك اصطدم بعائلته حين أراد تسليم أرضه الموروثة من عائلته العريقة للفلاحين ، لكنه فشل وانهزم في تحقيق فكرته أو مشروعه هذا لموقف أفراد أسرته المعارض بشدة له .
ولقد كان له مواقف خاصة اشتبك بفعلها مع جهات مختلفة في ظروف تلك الفترة من حياته ، فاشتبك في معنى الدين ، ودلالة الفن ، وغاية الثقافة وأغراضها ، وأسلوب العيش ، وعادات وتقاليد الحب والزواج في المجتمع . وقد كان تولستوي يرى أنَّ المجتمع يعاني من العيوب والمساوئ المستشرية ، مما يجعله يعتقد بأنه يجب العمل على الاصلاح وتقويم الإعوجاج السائد . وقد كان يعتقد دينيًا بأنّ اصلاح الفرد يؤدي الى اصلاح المجتمع ، لكنه لم ينجح في تحقيق أفكاره بهذا الشأن نظرًا لكونهِ لم يكن مدركًا أنّ الفرد يسير وفقًا لعادات واساليب عيش المجتمع ، وأنّ الفرد لن يغيّر نظمه الأخلاقية والمعيشية إلّا اذا هَيّأ له المجتمع أسباب التغير . وقد كان تولستوي في نظرته الحياتية الاجتماعية والأخلاقية مثالي النزعة ، ولم يكن ماديًا ، وكان في مراحل حياته الأخيرة أشبه بزعيم أخلاقي وديني .
يقول الكاتب والمفكّر المصري سلامة موسى إنَّ الأب الروحي لتولستوي كان الأديب الفرنسي العظيم جان جاك روسو ، وكان تولستوي نفسه الأب الروحي بعد ذلك لغاندي . وكون جان جاك روسو أبًا روحيًا لتولستوي ينبع من وجود قاسم مشترك بين الإثنين ، فإنَّ كلًا منهما وجد في العودة الى البساطة والطبيعة حلًا للأوضاع الاجتماعية المعقدة في الحضارة العصرية . ونرى أيضًا أنّ الثلاثة : روسو وتولستوي وغاندي كانوا يبذلون الجهود ويدعون لتحقيق الطمأنينة والسلام والسعادة مما سبب لهم الألم من مجتمعاتهم لكفاحهم واخلاصهم في أفكارهم . ويمكن القول إنَّ تولستوي قد أوحى لغاندي بثورة اللاعنف التي قادها وتزعمها غاندي في الهند ضد المستعمرين الانجليز بمقاطعتهم بثورة اكتسبت لون الوداعة التي تمتع بها غاندي الذي كان يطلب الأخلاق والإصلاح كتولستوي نفسه ، فكلاهما كان يطلب إصلاح الفرد ، وهذا من منظورهما يؤدي الى إصلاح المجتمع .
وعند الانتقال للحديث عن المهاتما غاندي ، فإنّه تجدر الإشارة الى أنّه لم يكن مؤلّفًا للكتب أو إخراجها الى عالم النور ، لكن دعواته أو رسالاته الكثيرة كانت تدعو الى الوطنية الهندية ، ومحاربة الاستعمار والوصول الى الاستقلال والحرية عن طريق العصيان المدني ، علاوةً الى الدعوة حياتيًا للمغزل والمنسج ، وعلى صعيد العيش كان يدعو الى الطعام النباتي واعتماده . وخلاصة رسالاته المتعدّدة ناشئة عن نزعته الانسانية التي يسودها روح القداسة . ومن سمات غاندي الأصيلة أنّ الكفاح لديه لم يكن دمويًا ، فهو ينبذ النضال القائم على العنف والدماء . ولم يكن تدينه لديانة آبائه فقط ، أي الهندوسية ، فقد كان يجعل صلاته حافلة وجامعة للانجيل والتوراة والقرآن والكتب الهندوسية المقدسة كما يذكر لنا سلامة موسى الذي يخبرنا بأنّ غاندي لم يكن يضع القواعد كي يتقيد بها ، وإنما كان يفرض القاعدة أو المبدأ للإسترشاد الأخلاقي، ففي نظرهِ أنّ غاندي ولد إنسانًا ومات قديسًا. فعندما اغتيل غاندي عام 1948 نعاهُ رئيس وزراء الهند المستقلة حديثًا ، جواهر لال نهرو ، مخاطبًا الشعب الهندي قائلًا إنّ غاندي بموتهِ المأساوي هذا قد انطفأ نور حياتكم ، وعمّت الظلمات . ولقد وُصِف مصرع غاندي أنه «جريمة العصر» واعترف العالم اينشتاين أنَّ أفدح كارثتين في تاريخ هذا القرن العشرين هما : تفجير القنبلة الذرية في هيروشيما ، ومقتل غاندي . فغاندي هو من العظماء الذين تفتقر اليهم الإنسانية ، فهو يشرّفها ، بإبراز كنوز روحها ، وطاقات سموها بنشره للحب والتآخي والتضامن ، وقيم الخدمة والوفاء للحق ، والصبو الى كمال الله .
ويؤكّد العديد من المفكّرين والأدباء والنقّاد أن غاندي كان مشبعًا بروح الإنجيل ، وخصوصًا بروح المحبة الشاملة ، وايثار ونصرة الفقير والمسحوق ، والتضحية بالذات ، والتجرُّد المطلق ، وطُهر النوايا ، فقد عاش يحمل هذه المبادئ باعتبارها نظريات سامية جديرة بالتأمل ، يمارسها ويحياها بدقة والتزام صادق أمين . ومن اللافت أنّه عاش تطويبات السيد المسيح في الموعظة على الجبل بكل حذافيرها ، وبكل أصالتها وصفائها ، فقد كان نقي القلب والروح ، وهذا ما انعكس في بساطتهِ ، وتواضعِه ، ووداعته ، وفقرهِ ، وسعيهِ لصنع السلام ، وتعطشه الى العدل والحق وتخفيف المعاناة المادية من جوعٍ وعطش لدى الآخرين .
ويرى غاندي أن موعظة الجبل هي المسيحية بأكملها ، لمن رام أن يعيش حياة مسيحية . وفي هذه المعاني يلتقي غاندي بتولستوي من حيث الرؤية الإنسانية لرسالة السيد المسيح التي تتجسّد في الأخلاق التي دعا اليها ، وركيزتها المحبة ، فهي في نظر تولستوي أسمى وأرفع ما تكون للمجتمع البشري . بالإضافة الى ذلك فإنّ تولستوي يستخلص من موعظة الجبل في الإنجيل هذه الوصايا الخمس : لا تغضب ، لا تزنِ ، لا تُقْسِم ، لا تقاوم الشر ، لا تكن عدوًا لأحد .
أما بالعودة الى غاندي ، فإنّه من اليسير على من يتتبّع كتابات وسيرة غاندي ، أن يدرك مدى تأثُّر غاندي بتعاليم الانجيل وروحانياتهِ ، فعبارات الانجيل تبدو متجسّدة في قلمهِ وكلامهِ ، من حيث كونهِ متفاعلًا معها وكأنّه كما قيل عنه إنّ لغاندي قلبًا انجيليًا يخفِقُ بين أحضان عقيدة هندوسية .
وأخيرًا ، فإنّ غاندي ينطلق بانسانيته وروحانيته السامية ودعوته للإخاء البشري فيقول : «جميع الديانات ، في رأيي ، تجسّد قوة دافعة مشتركة : هي الرغبة في الارتقاء بحياة الإنسان الى أسمى . ومنحها هدفًا .» وبما أنّ حياة يسوع المسيح تتّسِم بهذا المعنى ، وبهذا التسامي ، فإنني أعتقد أنّه لا يخصّ المسيحية وحدها ، بل العالم أجمع : جميع الأجناس والشعوب ، تحت أيّة رايةٍ ساروا ، وأيًّا كان اسم العقيدة التي بها ينادون ، وعبادة الله التي ورثوها من أجدادهم .
وهكذا مع كل ما ذكرنا عن تولستوي وغاندي نجد دون أدنى شك بأن هناك قواسم مشتركة عديدة بين الشخصين ، ومع كل ما نجد في حياتهم وتعاليمهم وأقوالهم من فرادة إنسانية ، فإنَّ فيهم من إخلاص وبساطة ومحبة ما يثير فينا الدهشة والإعجاب والتقدير .