عنصرا المحبة والصفاء عند الأديب فتحي فوراني من خلال كتابه «أقمار خضراء»
بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف
وصلني مؤخرًا نسخة من كتاب «أقمار خضراء» من الأستاذ الأديب فتحي فوراني مشكورًا على اهدائهِ لي هذا الإصدار الذي يتضمن النصوص الأدبيّة الشائقة التي جاد بها في مناسبات متعدّدة ومتنوعة سواء كانت عبارة عن كلماتٍ ألقاها الكاتب أو مقالات في الصحافة حيث استمتعت جدًا بقراءتها لكونها تشكِّل مقطوعات أدبية فاخرة في لغتها ومضمونها وأسلوبها مما يجعلها مُسْتَحبّة لاسيما وأنّ الأستاذ فوراني يمتاز بكونه مباشرًا في اتجاه نصه أو مقالته نحو القصد ، فمقالاته دائمًا ، وكما عهدناه ، سلسة العبارة ، وسهلة اللغة مع سلامة نحوها وصرفها وبنائها ، وخالية من الحشو والتكرار والتعقيد ، تعالج موضوعاتٍ مشوِّقة ، تستهوي الكثير من الناس ، بغض النظر عن بساطتها في موضوعات شعبية ، أو عن عمقها في موضوع علمي أو فلسفي بحت ، لأنّ لكل موضوع جمهوره ومتذوقيهِ .
يُطّل الكاتب علينا في «أقمار خضراء» من شرفتين ، الشرفة الأولى بالكلمة الطيبة حيث يجود قائلًا «من اجلكم أيّها الأحبة ! ترمح خيول الأبجدية الجميلة على ميادين من ورق الورد وتبحر سفننا نحو شواطئ وجزر مشتهاة» ؛ ويتحفنا الأستاذ فتحي باطلالتهِ من هذه الشرفة بكلمات وأحاديث ونصوص نلتقي بها مع العديد من أدباء وشعراء وكتّاب معروفين من بلادنا ، يستعرض فيها الكاتب ذكريات ومشاعر وآراء وصفيّة عن تلك الشخصيات ، وفيها يسبك الكاتب مقالاته أو نصوصه في قالب فني محدّد وجميل ، جاء نتيجة لتجارب واختبارات وممارسات كتابية كثيرة ينبثق منها جوهر القضية المطروحة على بساط البحث الذي يجعله أديبنا بفطنتهِ اللامعة يتسع للعرض ، والتحليل ، والمقارنة ، والملاحظة والاستشهاد ، وكل من شأنه أن يجلو جوانب الموضوع ، ليقود طبيعيًا ومنطقيًا للتعريف والقاء الضوء على الشخصية التي يتناولها في كلمته أو مقالته بشتى الألوان من الأساليب الواضحة القاطعة والتي في أحيانٍ كثيرة يتوخى الكاتب أن تأتي موجزة ، مكثفة ، متضمنة خلاصة الحكم والرأي الأخير المستنتج . ويغلب على نصوص الأستاذ فوراني عرضه لموضوع الحديث عن الشخص الوارد هناك عرضًا غير خلافي ، لا بل وعرضًا رقيقًا محبّبا الى القارئ بجزئياته المختلفة . ومما يسترعي الانتباه أنّ الكاتب في هذه النصوص يعالج أي موضوع حول الشخصية المُتَحدّث عنها في جو من التفكهة والطلاوة بما في ذلك أيضًا الرصانة والاتزان والموضوعية . ولكن جمال التعبير والتصوير فيها ، لا يعني تكلّف البدائع البيانية والتوجّهات العاطفية ، بل يراد الاستعراض المُشَوّق الجامع بين الإيجاز ، ودقة الملاحظة وخفة الروح .
ومن اللافت أنّ الأستاذ فتحي فوراني يقول من شرفته الثانية مخاطبًا الشخصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي رحلت : «وداعًا أيُّها الأحبّة الغائبون ! أنتم حاضرون في وجداننا وفي ذاكرة الأجيال» . وهذا الأسلوب الأدبي في التوجه كما نلمسه ، يشّع بالعاطفة ، ويثير الإنفعال ، وعباراته موسيقية ، وألفاظه جزلة قوية وتراكبية متينة ، وذلك يتمظهر لاحقًا بوضوح في النصوص الخاصة بشخصيات الشرفة الثانية من الكتاب والتي لمحناها متأطرّة بشفافية بادية أيضًا في الشرفة الأولى ، وهذا عَهْدُنا دائمًا بتألُّق أبيات كاتب هذه النصوص الذي يتسِّم بالحكمة التي تزرع في الإنسان روح الأمل والعطاء في الحيا
إنّ نصوص الأستاذ فتحي فوراني في «أقماره خضراء» التي تصوّر لنا من خلال شخصياتهِ العديدة التي تطرّق اليها حينًا بايجاز وأحيانا أخرى بشيء من التفصيل ، وأوفى جميعها حقّها في الحالين – تُظهِر لنا أنّ لكل شعب ذات عامة ، تشابه بجوهرها وطبيعتها ذات الفرد . ومع أن هذه الذات العامة تستمد كيانها من أفراد الشعب كما تستمد الشجرة حياتها من الماء والتراب والنور والحرارة ، فهي مستقلة عن الشعب ولها حياة خاصة وارادة منفردة ، كما عبَّر الكاتب عن سمات وخصائص كل شخصية تحدث عنها في الكتاب ، وكان لها واقعها ومواقفها الخاصة الفريدة .
وفي الواقع ، أنَّ نصوص الكتاب التي نحن بصددها قد عرفت النمط الوصفي الى جانب النمطين السردي والبرهاني ، حيث رسم لنا الكاتب صورة الشخصية ، وصورة جوانب من جزئيّات سيرتها ونهجها الحياتي في مواقف مضيئة من ممارساتها الإيجابية وفي معظمها توحي بحسن طوية هذه الشخصية وادائها المتميّز في بعض الأدوار والمراحل الحياتية ، معتمدًا النمط السردي الشائق .
ومن المهم الاشارة هنا الى أنَّه في نصوص هذا الكتاب تبرز شخصية الكاتب جذّابة متدفقة بالعاطفة والسهولة والوضوح والطبعيّة التي يشهد عليها أسلوبه الحافل بالايقاع الزاخر بالتشابيه والاستعارات والألوان مما يضفي على النصوص طابعًا أدبيًا متدفقًا ، متوازنًا ، موسيقيًا ، رشيقًا ، مباشرًا ، قويًا ، شعريًا ، مركّزًا ، مصقولًا ، دقيقًا ، مهذبًا ، تصويريًا ، جزلًا متحرّرًا من قيود الصنعة البديعية . مما تقدّم نرى أن كتابة وتعبير الأديب فتحي فوراني تجري دائمًا على مبدأ الرصانة والجزالة في صفاءٍ شفّاف وألقٍ بعيد عن التصنُّع والجفاف ، واندفاق فيّاض الفكر ، وحرية تفكير ، واستقلال رأي ، وسعة أفق ، وتفكير منطقي ، وأسلوب منظّم ، رصين ، هادئ .
وأخيرًا ، وليس آخرًا ، فإنّ الأستاذ فتحي فوراني في كتابهِ «أقمار خضراء» يرى أنَّ الشخصية البشرية أو الانسانية تعكس صورة الحياة في شتى تقلباتها ، وأنّها صدق في الإحساس وصدق في التعبير ، وبالتالي ، فالنثر الذي جاد به هنا الكاتب هو فيض نفسي تتمخّص به النفس لتعبِّر عن كل ما يعتلج فيها تعبيرًا تصويريًا ايحائيًا فيه امتداد معنوي وعاطفي مما تستطيع الألفاظ أن تؤديه تجاه الشخصيات التي كتب عنها أديبنا في هذا الكتاب ، وأعمق ممّا تستطيع العبارة أن تبلغَه وتُبِلِّغُهُ . وخلاصة القول إنّ كتابة الأستاذ فوراني في نصوصه الأدبية هذه وغيرها حافلة بالمتعة تستهوي القارئ ، وتشدّه إليها شدًّا ، وتعمل على إحياء الموقف المثير ، واسترجاع الذكرى التي أحدثت في داخلهِ عالمًا من الرِّقة ، واندفاقًا مفعمًا بحب الحياة ، ومواجهة الواقع بغنى تعبيري حافل باللباقة وروعة الأداء . فلأديبنا العزيز أصدق التحيات ، وأطيب التمنيات بموفور الصحة وبالمزيد من التوفيق والعطاء .