بقلم : الدكتور منير توما - كفرياسيف
ليس من شك في أنّ العائد التربوي لمحتوى وأهداف أدب الأطفال يتمثّل في تعويدهم على القراءة والإطلّاع ؛ إشباع حاجاتهم النفسية والاجتماعية ؛ إثارة اهتمامهم نحو البحث والتنقيب ؛ ترقية الإحساس الفني والتذوق الابداعي لديهم؛ تزويدهم بالمعلومات والمعارف العلمية السليمة ؛ تطهير عقولهم من الخرافات والخزعبلات الثقافية ؛ تأصيل قيم التعاون والغيرية والتضحية من خلال القدوة القصصية ؛ إثارة ميولهم الى حب الاستطلاع والقدرة على الحل والتركيب والملاحظة والاستنتاج والوصول الى حقائق موضوعية وتهيئة الخبرات السليمة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة وهي الكفيلة بنقل معنى ومفهوم الخبرة بوضوح الى الطفل . وانطلاقًا من هذه الرؤى ، فقد أصدرت الأخت الأديبة ناديا صالح منذ مدة مجموعة من كتب قصص الأطفال ، وأبدت رغبتها أن أقوم بكتابة تعليق على بعض هذه الكتب تستطلع فيه رأيي حول مضمونها حيث اختارت تلاث كتب تحمل عناوين «أحلام الصغار» ، «قُبلة أمي» ، «حمّام مبارك« ، وبالتالي ، وتلبية لطلبها الغالي ، سأتناول في السطور اللاحقة القصص الثلاث بالتعقيب بكل مودة وتقدير .
من الواضح أنّ قصة «أحلام الصغار» تتضمن كثيرًا من الرمزية البسيطة المباشرة حول الرغبة في تحقيق أحلام السلام لتي يعبّر عنها الطفلان «عرين» «ورام» اللذان يبحثان عن الحرية كالعصافير التي تخترق الأجواء دون قيود وحواجز ؛ ولّما كانت عرين قد حدثّت رام عن النعجة البيضاء التي روت جدتها قصة تلك النعجة التي انطلقت الى الغيوم حاملةً أحلامها بالسلام بعيدًا عن الشرور ، فقد تمنّى الصديقان عرين ورام أن يلتقيا بالنعجة البيضاء بين الغيوم ، فجاءت الريح ورفعتهما الى هناك حيث قابلاها وتمنّيا عليها أن تمنحهما أحلام السلام للأطفال جميعًا في هذا الكون ، فجادت عليهما بكل ما يمكن أن يحملاه من أحلام السلام ، بينما أبدت لهما النيّة في أنها ستبقى في أعالي الغيوم خوفًا وتحسُبًا من أن يسرق البعض هذه الأحلام ، وأخيرًا يعتلي عرين ورام قوس قزح وينزلان الى الأرض حاملين هذه الأحلام الجميلة .
لقد ارادت الكاتبة بكل بساطةٍ أن تشير الى أنّ الأطفال يعبرون عن أحلامهم بالسلام وإزالة الحواجز بين الناس دونما وجود العداوات ، إنّما يعكسون رغبة الغالبية العظمى من الكبار والصغار في هذا العالم . وقد أظهرت لنا الكاتبة بكل حكمةٍ ودرايةٍ كيف أنها تسعى الى تحفيز القراء والسامعين من الأطفال الى اكتشاف الرمزية في القصة من حيث كون النعجة البيضاء ، على سبيل المثال ، رمزًا للطمأنينة ، السلام ، التسامح ، الوداعة ، البراءة ، الضعف ، التضحية ، الصفاء ، اللطف ، الصبر ، التواضع والمحبة الالهية .
كذلك نجد في القصة أنّ المؤلفة قد ركّزت على الغيوم باعتبارها ملاذًا آمنًا للنعجة البيضاء من الشرور التي قد تسرق أحلام السلام التي تحملها ، وبهذا تجعل الأطفال النابهين يدركون الترميز الكامن في الغيوم ، فالغيوم وفقًا لهذه القصة وبشكل عام أيضًا ترمز إلى المؤقت وسريع الزوال (وهذا حال النعجة بين الغيوم الذي لن يطول كثيرًا) ، الموت ، الوهم ، المجهول ، والغامض ، القداسة ، الحشمة ، التغيير ، التلاشي والإضمحلال ، الحريّة ، الاستقلال ، الحقيقة المغمورة ، العناية الالهية وحامل الرسالة .
ولا يفوتنا الى أن نتطرق الى رمزية قوس القزح في نهاية القصة ، فهو يرمز إلى البركة (باعتبار عرين ورام يصلان الى الأرض عن طريق اعتلائهما لقوس القزح حاملين أحلام السلام الممنوحة لهما من النعجة البيضاء) ، المحظوظ ، الجسر بين السماء والأرض ، الأمل ، رحمة الرب ، مجد السماء ، التجلّي ، الإتحاد ، الغفران الالهي والتصالح ، عرش آلهة السماء والوعد .
وبانتقالنا الى قصة «قُبلة أمي» نرى أنّ هذه القصة تمثّل تعبيرًا صادقًا وحميميًا عن مشاعر الطفل المتكلّم على مدار صفحات الكتاب ، والتي يعكس فيها الطفل معظم المواقف التي يتلقى فيها القبلات من أمهِ الحنونة الطيبة الرؤوم التي تغدق عليهِ القبلات عند الصباح وساعة ايقاظهِ ، وعند ذهابهِ لروضته ، وعند اغتسالهِ ، وعند ألمه ، وعند حزنهِ ، وفي فرحهِ وفي كل مناسبة . وهنا لا بُدّ لنا أن نشير الى أنّ ما ورد في هذا الكتاب ليس بالقصة بكل معنى الكلمة ، وإنّما هي مناجاة ذاتية يؤطّر فيها الطفل لمحبة أمه له ، ولمشاعرها الجياشة تجاهه المُعَبَّر عنها بالقبلات الصادقة الصادرة عن قلب الأم الذي لا يعرف الّا خير وحب الأبناء في كلّ زمانٍ ومكانٍ . ولا غرو في ذلك فالقبلة دائمًا وخصوصًا قُبلة الأم كانت وما زالت ترمز الى السلام ، المصالحة ، المحبة ، الارادة ، الطيبة ، الإيمان الطيّب ، الزمالة ، الهوى والعاطفة ، التواصل معًا ، الموالاة أو الإخلاص المتبادل ، والوحدة .
أمّا في قصة «حمّام مبارك« فتبيّن المؤلفة مدى عناية ورعاية الأم لولدها حيث تدعوه للاغتسال وأخذ الحمام الدافئ الذي ينعش جسمه ونفسه كما نرى من خلال الوصف التفصيلي لمراحل الحمام الذي يوحي برسالة أهمية النظافة الشخصية للطفل خاصةً والانسان عامةً . ومن اللافت أن الأخت ناديا صالح المؤلفة قد اعتمدت في هذه القصة ، على الغالب ، لغةً شعرية مقرونة بالسجع بهدف تحبيب الطفل القارئ باللغة الموسيقية التي تخاطب روحه وأحاسيسه بانغامٍ هادئة يتوق اليها الطفل بسماعهِ إياها ، فعلى سبيل المثال يرد في احدى صفحات الكتاب هذه المقطوعة التالية الحافلة باللغة الشعرية المسجوعة :
«أنا الماء الساخنْ
موجودٌ في المساكنْ
أزيلُ الأوساخ والرمالْ
عن أجسامِ كل الأطفالْ
أنشُرُ الانتعاشَ والسعادة
فاجعلوا النظافة عادة» .
وفي صفحة أخرى نجد المقطوعة التالية على النمط ذاته وبالكيفية الشعرية المسجوعة ذاتها التي تضفي جمالًا بديعيًا يؤثر في ذهنية ونفسية الطفل :
ثم قال الشامبو المُعَطَّرُ :
أنا الشامبو المعطَّرُ
تكبرُ فقاعاتي وتصغُرُ
أُدغدغُ جسمكَ الصغيرْ
وأملأ الحوضَ بالعبيرْ .
وهكذا وبعد أن تناولنا بالإستعراض والتعليق على القصص الثلاث المذكورة ، نخلص الى القول أنَّ المؤلفة كانت تطمح الى البحث عن الصور الجميلة ليمتع العقل والشعور والمخيلة ، وكانت بذلك تخاطب الانسان الطفل في كليتهِ ، آخذةً في الإعتبار خصائصه المتميزة التي تَسبغها طبيعة الأطفال أنفسهم ، حيث أنّ حاجات الأطفال وقدراتهم وخصائصهم الأخرى تختلف في اتجاهاتها عما يميّز الراشدين ، لذا لا بد لأدب الأطفال من ان يتوافق مع قدرات الأطفال ، ومرحلة نموهم العقلي والنفسي والاجتماعي ولا بد أن يسكب مضمونه في أسلوب خاص . وهذا ما نجحت ووُفقت به المؤلفة الأخت ناديا صالح في وضع هذه الكتب لجيلٍ مبكر يتوافق مع فكْرِهِ بالشكل والمضمون . فلها منّا كل احترام وتقدير مع اطيب التمنيات لها بدوام التوفيق والمزيد من الابداع والعطاء ، دون أن ننسى الإشارة الى جمالية وفنيّة الرسومات المصاحبة لنصوص القصص في هذه الكتب التي قامت بالرسومات فيها الفنّانة منار الهرم التي تستحق الإشادة باتقانها الفني باللون والموضوع . فلها أيضًا خالص التحيات والثناء .