قلبي في البروة وجثماني في عكا
(إلى روح زهرة الشّباب أحمد صبيح إدلبي الذي زرع جسده في عكا عصر الجمعة 24/9/2021 ليثمر على أرض البروة، ولو بعد حين)
حاذر وأنت تموت، يا أحمد، أن تُبقي بعض النّبض في قلب خالتي صبحيّة، وترفّق بما تبقّى من روح في قلب عمّي صبيح، لا تقسو برحيلك على الباقين على حبّك الكبير من أخوات عزيزات وأخ كريم، ولا تأخذ معك كلّ الفرح، أبقِ شيئًا منه للأحباب والأصحاب، فعليهم أن يفرحوا بأبنائهم وأحفادهم.
قلب خالتي اليوم كالحبق المتروك في وعر البروة، جفّت عيونه من الدّموع، واحترق قلبه على فراق الأحبّة الذين سقوه الماء الزّلال والحبّ الحلال وأطراف الظّلال، وعمّي كحجر معصرة دار الإدلبي، نحن حوله، لكنّه هناك يفترش ترابها، ويستنشق هواءها، ويرنو إلى سمائها، يعدُّ النجوم التي تركت الأرض وتعلّقت بحبال السّماء.
وأنت تهرول نحو قبرك، يا أحمد، عدّ للعشرة، كلّ إصبع كناية عن باقة من المحبّين، يتوقون لعناقك، ارفع رأسك، وانظر حولك تجدهم يلوّحون لك بقلوبهم، ويقبّلونك بعيونهم، ولا يزيدهم وداعك إلّا شوقًا للقائك، فأعطنا فرصة استنشاق عطر وجودك، يا قصفة الحبق التي تجفُّ إثر فراق أمّها، ويبقى عطرها يفوح من يد قاصفها، يملأ الصّدر حتّى أخر العمر.
ندفن اليوم بعضًا من أنفسنا مع جثمانك، فكيف نفصل بين فرحنا وفرحك، بين حزننا وحزنك، بين طموحنا وطموحك، بين محبّتنا ومحبّتك، بين روحنا وروحك، بين حياتنا وموتك. كيف نفصل بين الشّجرة وظلّها، بين أمواج "شطّ العرب" وهديرها، بين عكا وسورها، بين البروة وأهلها، بين الأمّ وابنها، بين النّخلة وطولها، بين الحياة وحلوها ومرّها.
اسمح يا أحمد، لسوار وسماح ورغيد أن يمسحوا جبينك براحة الأخوّة النّديّة، قبل أن تنتقل إلى بيتك البعيد، حيث لا رسالة ولا مرسال، حيث يوصد الباب أمام الزّوار الذين يضعون الزّهور على بابك، ويتركون دموعهم وقلوبهم أمام دارك، ويمضون خائبي الرّجاء وهم يتمسّحون بوجه رخامك.
لقد تركت خالاتي: مهيبة، نسيبة، صبحيّة، زادة وختام يتّكئن على كتف أمي أميرة، يقطّعن نياط القلب بعويلهنّ، يندبن قدرهن الذي حرمهنّ من التّمدّد على شوك البلّان مكانك، يتمنّين أن تحمل كفّك نعشهنّ، يرثين حظّهنّ في البقاء على قيد الحزن ما حيينَ، فلماذا حرمتهنَّ من أفجع الأمنيات بفاجعة فاجعة؟!
انتهت الجنازة يا أحمد، ولكنّ موكب الموت ما زال يشيّع الجثامين. سنشارك المحزونين ونواسيهم في بلاياهم، ونبكي معهم في آلامهم، لكنّنا سنبتهج بكلّ لحظة فرح بين كلّ جنازتين لئلّا تُسقط الحياة رايتها مهزومة، ذليلة، مُهانة تحت أقدام الموت السّوداء.
سنظلّ نمسك بمفتاح البيت في البروة، نلوّح به أمام صلف الغاصبين، لأنّ جثمانك الذي احتضنته الحبيبة عكا يستحقّ أن يعانق ترابها في رقوده الأبديّ. اسمح لنا أن نكشف خيبتنا في لحظة الحقيقة العميقة البالغة، ونعدك أن نواصل المسير نحو أرض البروة، فلنا فيها بيت، ومعصرة، ولنا فيها مقبرة.
إياد الحاج
كفرياسيف – 24/9/2021