أدب الأطفال في عصر الوسائل المرئيّة!
د. إياس ناصر
لَشَدَّ ما أسعدني أن أطّلع في الأشهر الأخيرة على شيء من مؤلّفات الأديب المصريّ كامل كيلاني (1897-1959)، وهو الأديبُ الألمعيُّ الفذّ، المتبحّر المتضلّع من اللّغة العربيّة، الذي عُني أشدّ العناية بأدب الأطفال، وجَعَلَ وَكْدَهُ تأليفَ القصص وترجمة المؤلّفات في هذا الفنّ، كمصباح علاء الدّين، والملك العجيب، والسّندباد البحريّ، والملك لير، والشّيخ الهنديّ، وغير ذلك من مئات القصص الغنيّة التي لا تبلى جِدَّتُها على تطاول الأعوام، ولا نراها إلّا دليلًا على أنّ الكيلاني قد نَهَجَ الطّريقَ إلى ما يُعرَف بأدب الأطفال في الشّطر الأوّل من القرن العشرين، فكان له فضلُ السّبق في هذا المضمار، وحقيق بنا أن نظلّ شاكرين له هذا الفضل العميم الذي أسداه في خدمة أدب الأطفال واليافعين، وفي خدمة اللّغة العربيّة نفسها، وقد صَدَقَ فيه قول الشّاعر: خَدَمَ البِلَادَ وَلَيْسَ أَشْرَفَ عِنْدَهُ / مِنْ أَنْ يُسَمَّى خَادِمًا لِبِلَادِهِ!
ولعلّ أهمّ ما نلاحظه في مطالعة ما خلّفه هذا الأديب الكبير من مؤلّفات وترجمات، أنّه يأسر القارئَ بلغته العربيّة الأنيقة البديعة، التي تمتاز بجزالة الألفاظ، ورشاقة الأسلوب، ودقّة التّعبير، وقوّة السّبك في وصف المعاني وبسط الصّور على أحسن وجه، يَعمِدُ في ذلك كلّه إلى لغة طيّعة سلسة، تنقاد له وتستجيب لقريحته الأدبيّة، فيتدفّق الكلام على لسانه عفوَ خاطره، وتنثال اللّغة طَوْعَ أناملِهِ، وتجري العبارات من قلمه جريان النّهر الغيداق أرسالًا أرسالًا في غير تكلّف أو تَعمُّل أو عناء.
وقد كان آخر ما قرأتُهُ من آثار الكيلاني قصّة «روبنسن كروزو» (القاهرة: دار المعارف، 1954) التي ألّفها الأديب الإنجليزيّ دانيل ديفو ونشرها سنة 1719، فنالت الحظّ العظيم من الإعجاب والإقبال، وملأتْ شهرتُها الخافقَيْن، وظَفِرَتْ بالتّرجمات والأفلام التّلفزيونيّة المتعدّدة، لما فيها من بناء قصصيّ متقن، وأحداث ممتعة طريفة، تدور على ذلك الملّاح الذي التهمت الأمواج سفينته، فقذفتْ به الأقدار إلى جزيرة نائية مقفرة لا أنيس فيها ولا رفيق، فعاش فيها رَدَحًا من الدّهر، تَضرِبُ الأيّام بينه وبين أهله وتنأى به عن الدّيار، فلا يُطفِئ سقيطُ الدّمع ما به من لوعة الفراق وتباريح الأشواق، غير أنّ اليأس لم يَغلبه على أمره، وإنّما أخذ يقارع الخطوب وينازل الغوائل، ويلقاها بالصّبر والعزم والعمل والفطنة والشّجاعة، حتى استطاع أن يدبّر معيشته الموحشة أحسن تدبير وأفضله، وانتهى به المسير إلى الخلاص والنّجاة.
وقد نقل الكيلاني هذه القصّة إلى العربيّة نقلًا ممتعًا بديعًا، يسّر فيه سبيل قراءتها للأطفال واليافعين، بعد أن أحسن التّصرّف في ترجمتها بمقدار، كدأب الكثرة الكاثرة من المترجمين في تلك الحقبة، وأجاد تأديتها بلغة آسرة متينة، لا يدّخر فيها وسعًا في ضبط الكلمات بالشّكل التّامّ، ولا يألو جَهْدًا في تفسير الألفاظ في الحواشي ما عنّتْ للقارئ كلمةٌ صعبة وسَنَحَتْ له لفظةٌ فصيحة. وقد حرص في هذا كلّه على تقييد القصّة بعلامات التّرقيم تيسيرًا للقراءة السّليمة التي توافق المعاني والصّور والمشاهد. ثمّ إنّه أثبت في أوّل الكتاب مقدّمة وافية جامعة، يعرّفنا بالمؤلِّف، ويطوّف حول سيرته وآثاره، ثمّ يَبْسُط رأيَهُ في القصّة وما ظَفِرَتْ به من وقع عظيم وشهرة مدوّية.
ولا ريب أنّ هذه القصّة تدلّ دلالةً واضحة جليّة على أهمّيّة المطالعة وما لها من أثر بالغ ومفعول عظيم في حياتنا هذه. فلا يخفى أنّنا نعيش اليوم في عصر قد استحوذت عليه الوسائل المرئيّة من صور وأفلام، فانصرف الأطفال إلى مشاهدتها في شغف عظيم، وهو أمر فيه من الفوائد والمضارّ ما لا سبيل إلى التّفصيل فيه. ومهما يكن من أمر، فإنّ ما يلقاه الطّفل من النّفع العظيم في مطالعة القصص لا يكاد يحصى لكثرته، لأنّ المطالعة خليقةٌ بأن تَشْحَذَ مقدرتَهُ الخياليّة، وتنمّي مَلَكَتَهُ اللّغويّة في التّعبير عن نفسه، وتعزّز معرفتَهُ في الأساليب الأدبيّة، وترقّي أفكارَهُ في تلمُّس التّجارب الإنسانيّة، وتُظْهِرَهُ على أصول اللّغة وخصائصها نحوًا وصرفًا وإملاءً. ثمّ إنّها إلى جانب هذا كلّه توقظ في نفسه حُبًّا مطّردًا للقراءة، وتُمتِّن صلتَه بهويّته، وتقوّي انتماءَهُ إلى لغته وأدبه وتراثه، وهي غايةٌ سامية قد غابت عن أنظارنا ونحن نخوض غمار ما يُلْقِيهِ إلينا العصر الحديث من وسائل مرئيّة لا إخالها تقوم مقام المطالعة في تنمية الطّفل وتهذيب شخصيّته وترقية مداركه.
ومن منّا لا يُسلِّم أنّ الحضارة الحديثة التي بلغتْ من التّطوّر كلّ مرتقى قد زَحَفَتْ إلى أكثر مناحي حياتنا، وكان لها ما لها من الفوائد في حياة الأطفال واليافعين، غير أنّها أضعفتْ صلتَهُمْ بثقافة الكلمة المقروءة، أو بعبارة أدقّ أَوْهَتْ صلتَهُمْ بالكتاب نفسه. فليس لدينا من شكّ في أنّ الصّور والأفلام تتيح للطّفل أن يُحلّقَ في عالم الخيال ويَمْخُرَ في بحر المرئيّات، غير أنّ مطالعة القصص تَدفعُهُ دفعًا إلى الإبداع، وتَحفِزُهُ حفزًا إلى الخلق، حين يقرأ القصّة فيتخيّل المشاهد، ويتمثّل الأحداث، ويُسْبِغ على الكلمات صورها ومعانيها ودلالاتها، ويتبيّن الرّوابط بينها عن طريق اللّغة نفسها، وهو أمر ليس بالميسور في الكثير من الوسائل المرئيّة التي تَبسُطُ له المشاهد حاضرةً ماثلةً أمام ناظريه، فلا يَجهَدُ في تصوّرها، ولا يتكلّف من أمر تكوينها المشقّة والعناء.
ولعلّ أهمّ ما يفيده النّاشئ من المطالعة أنّه يوطّد صلتَهُ بثقافة الكلمة التي لا تزال على مرّ العصور وتقلّب الأيّام عمادَ الحياة الإنسانيّة كلّها، والرّكن الأجلّ الذي لا سبيل إلى تنحيته عن عوالمنا ومَعايشنا ومشاغلنا وبيئاتنا مهما تكن متعدّدة متباينة متمايزة. فنحن نعيش بالكلمة في كلّ مناحي الحياة، نستعين بها على الفهم والإفهام، والتّوضيح والاستيضاح، والنّظر والتّأمّل، والحديث والحوار، وإلّا فأنّى للإنسان أن يلقى أخاه الإنسان بغير الكلمة الشّذيّة المعطار، وكيف تربّي الأمّ أبناءها على القيم والتّعاليم بغير النّصح والتّوجيه، وكيف يدرّس المعلّم الموضوعات بغير الشّرح الوافي والتّفسير الجليّ، ومن أين للمحامي أن يذود عن حومة الحقّ وذمار العدل بغير البيّنات الدّامغات والبراهين النّاصعات التي يرميها سهامًا نافذة دفاعًا عن المظلومين والمسحوقين! فلو نَظَرْنا في هذا كلّه نظرة متأنّية، ألفينا الكلمة حاضرة في حياتنا حضورًا جليًّا لا سبيل إلى الاستغناء عنه في تدبير أحوالنا وتصريف أمورنا على الوجه الذي نبتغيه ونرتجيه. فليس لنا بدٌّ من أن نستعين بالكلمة أوّلًا في تربية الأبناء، وليس أجدى عليهم من المطالعة التي تقوّم شخصيّاتهم، وتنمّي خيالهم، وتقوّي تعبيرهم، وتمتّن انتماءهم. ولن يجد المرء في بلوغه هديّةً أعظم ولا ذخرًا أنفس من المطالعة أيّام كان غصنًا رطيبًا وأملودًا غضًّا، لما لها في بناء هويّته وشخصيّته من أثر عظيم يَنفعُهُ أعظم النّفع كلّما تقدّمتْ به السّنّ وألقته الحياة في غَمَرات شؤونها وشواغلها.
ولا غَرْوَ أنّ القدماء قد استعانوا بالأدب من أجل تثقيف أبنائهم وتنشئتهم على القيم، فأكسبهم ذلك من غزارة المعرفة والفكر وقوّة الشّخصيّة ما أعانهم على تدبير معيشتهم وسياسة أمورهم بإحكام، وعندنا من الشّواهد على ذلك الشّيء الكثير؛ فقد اتّخذ بعض الخلفاء كأبي جعفر المنصور، والمهديّ، وهارون الرّشيد طائفةً من العلماء والأدباء واللّغويّين ليدرّسوا أبناءهم اللّغة العربيّة من أدب وشعر وعلوم متعدّدة. وأفاض ابن المقفّع في الحديث عن أثر الأدب وأهمّيّته في تهذيب المرء وإرشاده وتبصرته، فبيّن في مقدّمته لكتاب «كليلة ودمنة» أنّ الأدب ليس وسيلة للهزل واللّهو ولا مطيّة للتّسلية والتّرفيه، فهذه أمور ليست مقصودةً لذاتها، وإنّما نَقصِدُ إلى درس الأدب طلبًا لمعرفة تجارب الإنسان في هذا العالم، فيكون ذلك مدعاةً لاستنباط المعاني والاعتبار بها، وباعثًا على التّمييز بين الخير والشّرّ لئلّا يَجور المرء عن مَحَجّة الصّواب. وإذا عدنا إلى ما تقدّم من أمر أدب الأطفال وكتاب «روبنسن كروزو»، وجدنا أنّ المترجم كامل كيلاني ينصّ في صدر الكتاب على ما قاله الفيلسوف جان جاك روسو في حديثه عن المطالعة وفضلها في تربية الأبناء وتنشئتهم على مكارم الأخلاق ونفائس الخصال. وقد بَسَطَ هذا الفيلسوف لسانَهُ بالثّناء على كتاب «روبنسن كروزو» قائلًا: «ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا مَعْدَى لنا عن المطالعة؛ فثمّة كتابٌ هو عندي أثمنُ ذُخْرٍ في التّربية الاستقلاليّة الطّبيعيّة. وسيكون أوّلَ كتاب يقرؤه طفلي «إميل». [...] تُرَى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعلّه كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون»! كلّا، ليس كتابَ أحدٍ من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».».
إنّ الحديث عن الكيلاني ليس حديثًا عن أديب بارع وبيرق خفّاق من بيارق أدبنا العربيّ فحسب، وإنّما هو إلى جانب ذلك حديثٌ عمّا يُفِيدُهُ المرء من المطالعة في مرتع الطّفولة وغضارة الصّبا ومَيْعة الشّباب، وهو حديثٌ عن لغتنا العربيّة التي تلقى من الهوان ما تلقاه؛ فقد بَرَعَ هذا الأديب في تأدية الفنّ القصصيّ في لغة خصيبة متينة جزيلة، يحبّب العربيّة إلى أبنائها، ويُعِينهم على استيعابها، ويُكْسِبُهم مخزونًا لغويًّا حافلًا بالمفردات، ويجنّبهم الوقوع في الأخطاء والمزالق اللّغويّة، حتّى تستقرّ في نفوسهم وتَرسَخ في عقولهم ما وجدوا إلى المطالعة سبيلًا في عصرنا الذي يَحفِلُ بالكثير ممّا يُفسِدُ عليهم الصّلة بالكتاب، ويغلو في صرفهم عن القراءة. ولو عدّدنا ما في ذلك من فوائد جمّة، لاستوقفتنا فائدةٌ خطيرة عظيمة تتّصل بما يقال إزراءً باللّغة العربيّة من أنّها لغة في غاية الصّعوبة لا سبيل إلى إجادتها وإتقانها. ولا ريب أنّ الطّفل، إذا دأب على مطالعة القصص، كان ذلك كفيلًا بأن يمهّد له السّبيل إلى التّمكّن من اللّغة العربيّة، والإحاطة بألفاظها، والإلمام بنحوها وصرفها وإملائها، قبل أن يكون المعلّم معوانًا له على دراستها في شتّى المراحل المدرسيّة.
ليست اللّغة العربيّة حروفًا وألفاظًا ليس غير، وإنّما هي إباء وشموخ وانتماء، وهي عماد الهويّة وحاضنة الفكر والمعرفة؛ فليست الفروع إلّا امتدادًا للجذور، وكما لا تَثبُتُ الزّيتونة في الأرض ما لم نقم على رعايتها وتعهّدها، كذلك لا سبيل إلى بناء شخصيّات أطفالنا وغرس أعظم القيم في نفوسهم ما لم نوجّه عنايتهم إلى المطالعة، ونوطّد صلتهم بثقافة الكلمة، ونعزّز انتماءهم إلى اللّغة العربيّة ونحبّبها إليهم. وما من أمّة ضلّت الطّريق إلى لغة آبائها ولسان أجدادها وأسلافها إلّا ضلّت الطّريق إلى حاضر أبنائها ومستقبل أحفادها ومصير أنجالها، وفي أدب الأطفال بارقة الأمل ووميض الرّجاء في درء هذا الهوان.