*عوالم تحت الأرض
رواية لكلّ العائلة.
تأليف الأستاذ وهيب نديم وهبة
بقلم: شهربان معدّي.
الكرمل؛ أرض الحكاية الخالدة التي احتضنت عشرات الحضارات وما زالت سامقة، خضراء، عصّية على نوائب الدهر..
حديقة الله، أو كرمة الله، كما ذُكرت في التوراة والعهد القديم، باللغة السريانية والأرامية، قطعة من الجنة سقطت من السّماء، سويسرا الصّغيرة، كما يسميها البعض، اختارها النبي أيليا، ليواجه أنبياء بعل وعشتروت، وانتصر عليهم، فانتصر الخير على الشرّ، وارتفع الكرمل، بهذا الإنتصار، إلى الأعالي حيث تهب الريح، وحيث تصافحك يد السماء وتلفحك روح الأنبياء..
وليس عبثًا اختارها الأستاذ وهيب وهبة، لتكون أرض الحكاية، فالكرمل مسقط رأسه، ملعب طفولته ومرتع صباه، من نسغ ماؤها العذب الزلال، ارتوت روحه، ومن خيرات أرضها الخصبة، تغذّى جسده "هو الكرمل، سجّادة من العُشب والزهر، وروح الشّجر المغروس بتعب الإنسان" ص 8.
الإنسان بطبيعته؛ فضوليّ، ومُحبًّا للإستطلاع، غزا الفضاء الخارجيّ، وجاب أرجاء البسيطة، نقب جوف الأرض، وغاص في أعماق المُحيطات، بذل قُصارى جهده ليكتشف كلّ شبر وفتر على أديم كُرتنا الزّرقاء الباذخة الجمال، لكي يضع يده على كنوزها الخفية والظاهرة منها للعين المُجرّدة، ولم يعبأ بتشويه ملامحها السّاحرة، أو تلويث مياهها الصافية، وتسميم هواءها النقي، كان هدفه الأول والأخير، استغلال مواردها الطبيعيّة..
ولكن في ذلك الصباح الباكر، حيث تدور أحداث بطل قصتنا ـ الراوي - الكاتب نفسه - الذي رزم أغراضه الشخصية، الحبل والطوق وآلة الحفر الصّغيرة، جهاز الإتصال، وصندوق الأدوية، ولبس بدلته الخفيفة التي تليق بهذه المُغامرة، وشد الرحال، لعالم المغامرات والعوالم الخفيّة، ليأخذنا معه عبر سرديته الرائعة، ومن خلال لغته الشعرية، الحالمة، لعوالم خفية تحت الأرض، ولكنها ليست ككل أرض، أنها أرض الكرمل الأخضر، "حيث يعيش الكرمل مع وجدان التراب، حكاية عشق وبطولة، ونبعة ماء وسباق خيولٍ" ص- 8 "أنت تدرك أن لك قلبًا ينبض بالحنين حين تُبصر الكرمل والبحر والسّماء التي تعانق الأفق."
وتبدأ الحكاية عندما يسقط طير غريد في حفرة غامضة، سحيقة المدى، ليست بفعل انسان؛ ربما تكونت بقدرة خارقة، أو بقوى الطبيعة، ولكن ما أثار فضول الكاتب؟ أنه كل ما يسقط في هذه الحفرة، لا يعود أبدًا وكأنها هاوية بلا قرار، والتفكير يقوده ليجرّ جذع شجرة، ويسقطه في الحفرة، ولكنه يختفي كما اختفى الطير، ص 10..
المجازفة غير مضمونة، ولكن لا يغمض له جفن، يتقلب كلّ الليل.. أسئلة كثيرة تحتدم في خياله الخصب، المفتون بحب المُغامرات، واكتشاف علم الغيب، وهو يعرف أن جبل الكرمل، قديم، بعمر الزّمان نفسه، وأنه كان مأهولاً بالسكان منذ العصور القديمة، يغلب النعاس عيونه التي أتعبها التنقيب والتفكير، ولكن أسئلة كثيرة نامت على شفته، تنتظر طلوع الصباح..
عندما نقرر أن نبدأ الرّحلة، ستظهر لنا معالم الطّريق، رغم المخاوف الكثيرة، ولكن لكي ننجح؛ علينا السفر في اتجاه مخاوفنا.. هكذا يؤمن المغامر الأريب، كلّ شيء جاهز، يمسك أول الحبل ويبدأ بالنزول رويدًا رويدًا، وبحذر شديد، مع قبعة على الرأس مثبّت عليها مصباح أماميّ صغير، رغم الظلام الدّامس، فضوله وشغفه باكتشاف المكان، ينير كلّ شيء، أليست نار البصيرة أقوى من نور النّهار ونور العين الشحمية..؟ وهي "سرّ المعرفة الذي منح العالم نهضة تطور حضارات الشعوب" ص 15.
عندما وصل لقعر الهاوية، حيث كان جسده يرتعد، ولامست أقدامه الأرضية الصُلبة، تذكّرت قصّة أليس في بلاد العجائب، صاحبة الخيال الجامح المتوثب والفضول الذي قادها داخل جحر الارنب العجيب، الطموح ذاته قاد بطلنا لذلك المكان المجهول، في رحلة مُثيرة تحمل كلّ عناصر الدهشة والإثارة تُغيّر مفهومنا عن هذه العوالم الخفية.. والصورة النمطية التي نعرفها عنه، بأنه عالم الموت والفناء..
وليس عبثًا أُقارن بين فضول أليس في قصّتها الإسطورية التي تُعد من روائع الأدب العالميّ، للكبار والصّغار، رواية تُرجمت لجميع لغات العالم، أليس "بطلة القصة" تكبر في الرواية وتصبح عملاقة، رغم أنها وحيدة تتجول تحت باطن الأرض، ولكنها تتحدّى كلّ الشخصيات التي واجهتها وتتغلب عليها بفضل شجاعتها وحكمتها، تجاهد لتقول رأيها، أو تسأل أسئلتها، أو تعبر عن معارضتها. برغم الجهود لإسكاتها ووصفها كثيرا بالغباء، هي لا تستسلم، وتبقى روحها متمردة وراغبة في الفهم والبحث عن المنطق، ذاته الفضول قاد بطلنا المِقدام، متحديّا الظلام الدامس ولزوجة الدهاليز، ورطوبة المكان، ليلتقيَ، بمجموعة مخلوقات غريبة، تعيش تحت الأرض، قاماتهم قصيرة وبنية جسدهم قويّة، هيئتهم تدب في أعماقه الفزع، فتحات عيونهم فارغة، ولكنهم يًشاهدون بنور البصيرة، وبالرغم أنه لم يعثر على لغة مُشتركة، يستطيع من خلالها مُخاطبتهم، ولكن لحُسن حظه وجد مخلوق أرضيّ يشبهه، كان دليله في هذه الرحلة الخيالية، أطلعه على أسرار هذه الشعوب، ومدى تقدّمهم في جميع المجالات العلمية والصناعية، تجوّل معه في الدهاليز التي تُشبه دهاليز مدينة الملاهي المُرعبة، وفي معامل المطر التي تُقلّل رطوبة المناخ وتسمح لنور الشّمس بتدفئة المدينة المدفونة في باطن الأرض، وبين القاعات الواسعة التي يشتغل بها العمّال كخلية النحل، من حيث النظام والهندسة والوفاء، يتنقلون ما بين الزّجاجات المُعلقة، وبين الألواح المُضاءة بشدّةٍ، " لا يقوى بصري على التمعن" ص 31 من وهج الضوء؛ رغم أنه المعروف لدينا جميعًا، أن باطن الأرض يسوده الظلام، ولكن هذه المخلوقات المتطورة يعود تفوقهم العلميّ بسبب صفوة القوم، وهم العلماء والحكماء الذين تم تكريمهم، وتصنيفهم بأنهم صفوة القوم، بفضلهم أضاؤوا مُدنهم، وحافظوا على سلالاتهم، وارتقوا بحضارتهم.. "نحن نصنع حضارة الغد وأنتم تصنعون حضارة الحرب وتجارة السلاح وقتل الإنسانية، أنتم تنزعون الشرعية عن الأقلية العاقلة، مُقابل الأكثرية الجاهلة" ص33.
المخلوق الغريب الذي كان مرة انسانًا، ولكنه فضّل البقاء بهذا العالم السُفليّ، لما وجده من رقة في التعامل واحترام الآخر بين كائنات ينبت لها اجنحة عندما تُريد الطيران، في هذه العوالم النورانية، يُقدّم له الأزهار المطبوخة ويصطحبه في رحلة طيران فوق بحر السُحب الذي يحرس الكوخ، ويسترسل الدليل قائلاً:- "أنتم لا تستطيعون السفر، ونحن نُسافر ما بين المحبة والملائكة، أنتم تغرقون في المادّيات، أين عاشق النور، أين الصلاة، الصلاة بهدف الصلاة وليس لهدف الجنّة" ص 37.
عند وصولهم للكوخ، لا يبصر المغامر الكوخ بل يبصر حزمة من السُحب، تُحيط بالمكان، يسمع أصوات ترانيم صلاة ولكن لا وجوه ولا أجسام..
قلت أين هم؟ أجاب الدليل:-
- هم عبدة المدينة، حرّاسها ونواطير أرضها، وصانعو أحلامها، أمجادها، رازقو سُكانها، لا تبصرهم - هم الشّفافون على أبصارنا، وصلوا إلى هذا المقام بفضل صفاء قلوبهم، ونقاء ضميرهم، وبهاء صلاتهم" ص 38.
بعد هذا التحليق الروحانيّ، الشفيف، والترانيم السّماوية، يشعر الراوي بالنُعاس، تسرقه غفوة صغيرة، يحمله صديقه بين النور والضباب.. تهتزّ أركان المدينة، ليتفاجأ القاريء، بأن كلّ هذه الرحلة الخياليّة، كانت مجرد حلم جميل، مليء بالمُفاجآت والتحديات، في عوالم خفيّة لم تطأها قدم أنسان، تمامًا كما حدث مع أليس عندما كانت مستغرقة في حلمها الجميل، وأيقظتها اختها لميس، لتكتشف أن كلّ ما رأته كان منامًا.. وانتهت بذلك قصة أليس في بلاد العجائب.. ومثلها انتهت قصتنا الرائعة، "عوالم تحت الأرض"
قصة ملائمة لكلّ العائلة، أنصح الأهل وبشدّة، قراءتها سوية مع أولادهم، الوقوف معهم عند كلّ فقرة واستخلاص العبر منها، التمتع باللغة الجميلة والسرد الساحر، التماهي مع بطل القصة - الراوي - والتّعلم من جرأته وشجاعته في اقتحام عالم الغيب، وسبر أغوار المستحيل، بفضل الخيال الجامح، والرغبة في اكتشاف عوالم جديدة، وليسأل كلّ أب ولده عن تأثير هذه التجربة عليه، وأنه في حال اكتشافهم لهذه الحُفرة، هل كانوا سيقومون بما قام به بطل الرواية، ويمشون وراء شغفهم وفضولهم، وليعلّموا أولادهم أنه لولا شغف وفضول الإنسان، لكنا ما زلنا في العصر الحجريّ..
للأديب الرائع الأستاذ وهيب أقول:-
أسرتني لغة الكتاب الشعريّة..
والسرد الآخاذ..
الذي يجعل القارئ يلتهم الصفحات
كفطيرة لذيذة..
خرجت لتوّها من الفرن..
يجهز المرء عليها.. حتى آخر لقمة..
ويتمنى لو بقي المزيد..
بوركت صديقي على هذه الأيقونة..
في كتاب المطر حلّقنا معك بين المجرّات..
والآن نكتشف معك بواطن الأرض الخفية..
وكنوزها الرائعة..
أتمنى أن تكون رحلتك القادمة داخل جسد الإنسان..
رحلة بين الجسد والروح والنفس..
تكتبها بلغتك الشعرية الراقية..
التي عودّتنا عليها..
وترسم معالمها روحك العذبة..
وهمّتك العالية.
وبذلك تسدّ نقص كبير في مجال الأدب الخياليّ المحليّ،
الذي سيثري عقول أجيال
ويبني جبال..
يعطيك ألف عافية وأكثر.
احترامي ومودتي..
شهربان.