فيروز... بعدك على بالي
"بعدك على بالي... يا قمر الحلوين
يا زهرة تشرين... يا دهب الغالي
بعدك على بالي..."
لا أزال استمع إلى فيروز دون انقطاع...ولا أزال أغوص في الأعماق... كيف لا، وصوتها يهبط على النّفس الّتي لا تعرف غير الطّاعة!
هناك...في الأفق البعيد أجد ذاتي في خبايا صوتها، بعد حالة غريبة من الضّياع...كأنّ كياني كلّه يمُرّ في عمليّة انصهار... فَتعيد بنائي من جديد؛ فالغبار الّذي تخلفه معارك الحياة وراءها كثيف مريب!
مَن يَختار العيش في العالم الفيروزيّ لا بدّ أن يشعر بما أشعر به؛ جلّ أفكاري، أحلامي، حروفي وهمساتي لا بدّ أن تصرخ، وتهيج، تنطق ثمّ تهمس بعد أن تهيم... فتهدأ لترسو، فتطمئنّ... إذ لا مكان للسّلام إلّا فيها.
أحيانًا، أجهل سبب ذلك الإحساس الذي ينتابني حين استمع إليها... أشعر بكياني يغوص طوعًا في الرّوح حيث السّكينة... وفي لحظة مباغتة ينتفض لينطلق، فيحلّق وَسَرب الطّيور فوق غابات الصّنوبر.
وأحيانًا أخرى، يتملّكني شعور غريب... كمن يفقد وعيه بإرادته، ليختار العيش في مكان تنعدم فيه جاذبيّة الأرض، يصاحبه شعور من الاستسلام يسحر النّفس، حينها يهدأ التّمرّد وترقد الثّورة بسلام...
ذلك الصّوت الفيروزيّ يستوطن الحياة بذاتها؛ في أزمنة وأمكنة لم أبلغها من قبل... وها أنا... في كلّ حالة غوص، وحالة إقلاع أجد فيروز شامخة بصوتها...هذا الشّموخ أجده في تلك الأجيال التي توسّمت الشّجاعة والنّخوة، أجيال كرهت التّصنّع، فأحبّت الصّدق والطّيبة.
فيروز متجذّرة في أحشاء القلب ... حيث كان الحبّ في تلك الأيّام خجولًا بريئًا، يسترق أجمل اللّحظات فيعيش حالة تشبه الأغماء وفقدان الوعي، وما أن يصحو من سكرته حتى يسرع ليخبئ سرّه في منديل طُرّزت فيه حكاية عشق وهيام.
ولّى زمان الحبّ، فأقفل الباب خلفه، وأوصده بإحكام، كأنه خائف من زوبعة عاتية آتية...
فكيف للحبّ أن يفتح بابه ثانية على مصراعيه، وهو على يقين بأنّ الصّدق قد غفا في عيون النّاس، واستحالت غفوته غيبوبة مصيرها مجهول!!
أما عادت تسكن فيروز بين خفقات القلب ونبضات الرّوح؟! أما عدنا نجدها في بساتين التّفاح وكروم العنب والزّيتون...؟!
أما عدنا نلمحها في فنجان القهوة الذي كان يلملم الأحبّة والجيران، في ساعات الصّباح وعند المغيب؟!
هل غابت فيروز عن الاذهان، وغابت معها حكاياتنا...؟!
ولّى زمن الحبّ، فهُجرت ليالي السّمر ولمّة الجيران، وما عاد الجار للجار...
تخلّينا عن قطع الوعود، فالكلمة تجمّلت، وتغيّرت معها ملامح الحريّة، وتبدّلت أحوالها، فصار المسموح منبوذًا والممنوع مرغوبًا...
فقدنا جوازات سفرنا، فاستأجرنا في وطننا وطنًا حديث الطّراز لا يعترف بوجود الإله...
آه يا فيروز...
بعدك على بالي...
لا تزال أغانيها تغوص في الأعماق، تهدّد ما ترسّب من رغبات مفقودة، فتفكّ قيود من وقع أسيرًا للحبّ والحبيب والوطن. إنّها كالثّورة التي تحمل سلامًا لا حربًا... هدوءًا لا ضوضاء.
فيروز...
دعينا نتذكّر نيسان، ونشتاق لتشرين وَلأوراق أيلول!
ليتنا نؤرّخ في ذاكرتنا عرق الفلّاح ورائحة المطر؟!
فيروز...
بعدك على بالي...
بقلم
سهير شحادة- كفرياسيف
20/12/2021