نَصّان نثريان متميّزان للكاتبة المربيّة سهير شحادة
بقلم : الدكتور منير توما - كفرياسيف
كانت الكاتبة المربيّة سهير شحادة قد نشرت مؤخرًا نصّين نثريين الأول تحت عنوان «إدمان من نوع آخر» ، والثاني يحمل عنوان «فيروز...بعدك على بالي» ، وقد اتّصلت بي تستطلع رأيي فيهما حيث ارتأيت أن اكتب تعقيبًا على هذين النصين لاسيما وأنهما قد حازا إعجابي باللغة والأسلوب والافكار الواردة فيهما ، فالكاتبة سهير شحادة تظهر في نصّيها المذكورين ذات طاقة بارزة في إحياء الموقف المثير ، ففي كتابتها تدفق روح ، وانصباب هواجس ، وانطلاق مزيج من عقلٍ واقعي مفكّر وعاطفة جيّاشة ، وغنى تعبيري حافل بالأناقة وجمال الأداء .
لقد وصفت الكاتبة نصّها الأول «إدمان من نوع آخر» ، بأنّه قصة قصيرة ، ولكنني أرى واعتقد أنّ هذا النص يمكن أن يقال عنه بأنه صورة قلمية أكثر منه ومن كونه قصة قصيرة . ففي هذا النص تتناول الكاتبة إدمان الراوية في النص على استخدام جهاز المحمول أو الهاتف النقّال وما يعرف «بالموبايل» والذي من خلاله يتم التعامل مع الفيسبوك وكل أصناف وسائل التواصل الاجتماعي . وتخبرنا الكاتبة على لسان الراوية بأن الراوية بعد أن كانت مدمنةً مجازًا على استعمال وسائل التواصل الاجتماعي في الجهاز المحمول ، فإنّ هذا الجهاز قد حدث فيه خلل تقني مما اضطرها الى إرساله للتصليح ، وخلال مدة انقطاعها عنه ، شعرت بنوع من فقدان شيء عزيز عليها اعتادت عليه ، وكأنها قد أصيبت بحالة تشبه الضياع . وهنا تسترسل الراوية في أفكارها وتعود في مخيلتها الى زمن البساطة البعيد عن تعقيدات التكنولوجيا الحديثة وكأني بها تلّمح الى أنّ ذلك الزمن ترى فيهِ زمنًا جميلًا وتشير الى أنّ هذه الوسائل التكنولوجية في هذه الأيام قد أدمن الناس عليها وكأنّها قد تحكمّت فيهم ، وتتساءل في نهاية المطاف عن هذا الأمر في حيرةٍ وريبة عمّا سيكون لاحقًا .
ومن اللافت عند سبر غور هذا النص ، نجد أنه يتعلّق الى حدٍ كبير بتكريس الوقت الكافي لكل عملٍ يضطلع به الإنسان . ذلك أن بعض الناس تزدحم حياتهم بالأعمال والأهداف ، بينما يأخذ بإعجابهم كل جديد ، فما يظل في أيديهم فترة من الوقت سرعان ما يزداد تعلقهم به كجهاز الهاتف المحمول ذي وسائل التواصل الاجتماعي، وتتضاعف جاذبيته ، وذلك يثير شهيتهم ، ويخطف أبصارهم ، ويهيج لديهم رغبة الإقبال عليه ، ولكنهم بهذه الطريقة يتم الاستيلاء على أفكارهم ، وبالتالي لا ينتهون من شيء ، ولا يصلون بأي هدف الى منتهاه ؛ إنهم كمن يجري خطوة الى الأمام ، ثم يرجع نفس الخطوة الى الخلف . وانني أرى بأن الكاتبة قد نجحت الى حدٍ كبير في الإيحاء الى هذه المعاني بأسلوبٍ مبطّن استطاعت من خلاله أن تبيّن عيوب آثار الانشغال كلّيا ومعظم الاوقات بأجهزة التواصل الاجتماعي رغم وجود العديد من حسنات استخدامه في الحياة الاجتماعية الخاصة والعامة على حدٍ سواء .
وبانتقالنا الى الحديث عن النصّ الثاني «فيروز...بعدك على بالي» ، يبدو لنا أنّ مضمون هذا النص يميل نحو النزعة الرومانسية بروحهِ وكلماته الدفاقة بالمحبة والإنسانية من خلال الفنّانة المطربة الكبيرة ذات الصوت الملائكي فيروز حيث ندرك أن الكاتبة تهيم حُبًّا واعجابًا بهذا الفن الفيروزي الذي يحمل رموز الحياة بتشعباتها السامية على الصعيدين الشخصي للكاتبة وللجمهور الذّواق على الإطلاق . إنّ كلمات الكاتبة في هذا النص تخاطب أحلام يقظة الكاتبة التي تطرب لصوت فيروز العذب والحنون والبريء والباعث على الأمل والرضى . ولقد أجادت الكاتبة واحسنت بإتيانها بالكثير من الاستعارات اللغوية الجميلة التي نلمس من خلال ألفاظها ومعانيها ذلك الصوت القمري الهامس والمداعب لفيروز كضوء شمس صباحات ريفية ، والمسائي في حزنه الشّفاف ، والطالع من زمن ومكان وذكريات وحنين ومشاهد ولحظات عيش .
إنّ عنوان أو افتتاحية نص الكاتبة هنا يبدأ بأغنية فيروز « بعدك على بالي يا قمر الحلوين يا سهر بتشرين يا دَهب الغالي» وتستمر الاغنية : « بعدك على بالي يا حلو يا مغرور يا حبق ومنتور على سطح العالي» وتنتهي بالبيت الأخير : « بتطل الليالي وبتروح الليالي وبعدك على بالي على بالي» .
إنّ الكاتبة في اختيارها للعنوان والافتتاحية لأغنية فيروز هذهِ ، إنّما تذكّرنا برمزية شهر تشرين حيث يرتبط هذا الشهر بالحصاد الذي يجتمع في موسمهِ الفلاحون وابناء الريف نشيطين فرحين في أجواء من البهجة والمحبة والتضامن متعاونين في تآلفهم الاجتماعي والإنساني لاسيّما وأن شهر تشرين يرمز أيضًا الى البذار والزراعة والى الخريف . ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن الكاتبة في نهاية هذا النص تدعو الى أن نتذكر نيسان ونشتاق لتشرين ولأوراق أيلول ، فهذه الأشهر بألفاظها ومعانيها قد وردت في أغانٍ أخرى لفيروز ، وتحمل في طيّاتها الكثير من الرمزية كما في كون شهر نيسان يرمز إلى البداية ، الشباب والصبا ، عدم الثبات والاستقرار ، كما أنّه يرتبط بالمطر باعث الخير والبركة .
وكل هذهِ المعاني تؤطِّر لرؤى ريفية تندمج بروح الطبيعة الخلّابة التي تغني لها فيروز دائمًا ، فتبعث نشوة الانسان . في صدره ، وتنعش لواعج المحبة في قلبه ، وهيامه بالحياة المشرقة . إنّ الكاتبة في هذا النص تؤكد بكلماتها النابعة من قلب محبٍّ القيم ، فنيًا ومضمونيًا التي حضرت بصوت فيروز في وجدان الأجيال العربية، فكانت فيروز موهبةً استثنائية في وجودها الفني وعطائها اللامحدود نزاهةً وجهدًا . وقد عبَّر عن ذلك الشاعر اللبناني المعروف سعيد عقل قائلًا : «صوت فيروز : هذا هو ذهب الشعر . هذا الإحساس عند الشاعر بأنّه ما من بثٍّ جميلٍ رشّح لأن تطلقه فيروز الى الناس إلّا وتحتمّ عليه أن يرفع عينيه الى السماء...»
لقد جعلتنا الكاتبة سهير شحادة في هذا النص عن عشقها لفيروز وفنها الجميل ، نتذكر ويتبادر الى ذهننا ما يقوله الكثيرون : عندما نسمع فيروز تغني نحسّ بمناخ قدسيّ يحيط بنا ، نشعر بجو صلاةٍ يكتنفنا ويخترق ضلوعنا ، يلفّنا بقوة وعنف ويحملنا على الصلاة . ذلك لأن الأغنية الفيروزية هي بجد ذاتها صلاة .
وهكذا ، فانّه مما تقدّم يتضح لنا وخصوصًا من النص الثاني للكاتبة عن «فيروز...بعدك على بالي» أنّ الكاتبة تقدّس الحرية الراقية الملتزمة المقرونة بالحب والمحبة من خلال نثر وجداني ذي وقعٍ مؤثر يبرز قوة الحياة متدفقة العاطفة وذلك باستحضارٍ تصويري للأفكار في شتى مظاهره ، تعرض له في تأنٍ وتأمل وبقدرة ظاهرةٍ في معالجة اللفظة وتركيب العبارة وإخراج الصورة . فللكاتبة المربية سهير شحادة أجمل التهاني ، واطيب التمنيات بالتوفيق والمزيد من الابداع والعطاء .