رذاذٌ وقوسُ قزحٍ
في ذلك اليوم كان وابل من القطرات يدقّ بقوّة على زجاج النّافذة الصّغيرة الّتي تطلّ على الشّارع الرّئيسيّ... راحت نور ترقب رذاذ المطر الّذي يأبى التّوقّف عن متابعة مساراته الكثيرة على سطح النّافذة...ذلك الرّذاذ الضّعيف الضّئيل كان مُلتصقًا ومُتحرِّكًا في نفس الوقت بفعل الرّياح العاتية.
شدَّها ذلك المنظر الذي ولّدتْه أحوالُ الطّقس القاسية: زمجرة رياح، برد قارس، مطر غزير وزجاج ترقص على سطحه قطرات من المياه الصّغيرة... رقصتُها ليست ككلّ الرّقصات... فيها حركات عشوائيّة وليدة اللّحظة الآنيّة...تنتهي بالفَناء.
تبدأ قطرة الماء بالتّحرّك بسرعةٍ في مسار غير ثابت، تجول بين النّقاط، تبتعد عن بعضها وتلتصق بغيرها، فتكبُر خلال مسيرتها السّريعة، تعلو ثمّ تنخفض، وتقفز قفزة لم تكن في الحسبان، ثم تكبُر وتكبُر... وتدور وتلتصق بغيرها من القطرات حتّى تصبح ككرة ثلج صغيرة مصيرها التّفتّت والتّشرذم والشّتات...
ما هذه الحالة التي تقع أمامي؟ أُحدِّقُ في رذاذ الأمطار وقطرات الماء في حنوِّ متأمِّلٍ؟!
تساءلت نور، وقد أدركت في أعماقها أنّ هناك شيئًا ما يجذبها للتّعلّق والتّأمّل بها.
أدركت نور مصير القطرات المسكينة، كما أدركت حجم مأساتها... إن لم تتعامل مع ما
ينتظرها بشجاعة وحكمة...
كم كرهت أن يكون حالها كحال قطرات الماء في عبثها المستفزّ...وكم أخافها أن يكون المصير مؤلمًا كمصيرها...
وهكذا قضت نور النّهار كلّه هائمة على وجهها، مستغرقة في التّفكير...شرعت تفكّر في حياتها مع رفيق دربها سامِح... الّذي تشاطره الحياة في حلوها ومرّها منذ سنين طويلة... تخبّطات ومخاوف جمّة علقت في صدرها، ووابلٌ من الأسئلة بات يهاجم فكرها هجومًا شرسًا:
إلى متى ستتحمّلين الإهانة؟ والتّعنيف...؟ أهو عمل صائب؟! تخلقين له الأعذار، وتبرّرين ما يقوم به بحجة الغيرة والحبّ!
ألا يكفيك ما دفعت من أثمان: ضرب وصراخ، شتائم وإهانات، خوف مميت، حبّ موجع أليم...تضحيات ومضايقات لا تُعدّ ولا تُحصى...
ماذا بعد يا نور؟ صمتك جلب لك المزيد من المتاعب!!
أيعجبك أن تكوني الضّحيّة التّالية؟ أهذا ما ترغبين به؟
خرجت نور من المنزل في ذلك اليوم الماطر وهي تعدو كالمُشرَّد في الطّريق...وبالرّغم من حالها الّذي يرثى له، إلا أنّها كانت تجري وهي في كامل وعيها: "لن أسامحه بعد الآن ...لن أصمت بعد الان!!"
تركت المنزل بعد أن كانت لا تجرؤ على برح مكانها دون إشارة منه...وهي يومذاك لم يسعها إلا الإذعان... خوفًا على حالها منه ومن العيون والألسنة...
توقفت عن الجري حين لمعت عيناها ببريق أخّاذ يعلن عن قرار يقضي بوجوب تركه...
وأخذت الأفكار تستحوذ على عقلها ونفسها وروحها بشأن مصيرها لو بقيت في ذلك المكان...
وفي لحظة من الهدوء الموجع، استولى عليها ذهول غريب؛ رذاذ الماء...القطرات...وصراعها لتلتصق بغيرها، أو بشيء ما...كرة الثّلج تكبُر... تُعَنَّف...تتفتَّتُ...
وكأنَّ الأمّ، الطّبيعة تهيّئُ لها العُدّة للفرار!!
الشّارعُ مقفرٌ الآن، وهي تقف في وسطه مطمئنّة، ناعمة البال...
وقد سمعت همسًا ناعمًا خافتًا لا تعرف مصدره يقول لها:
" حلِّقي بعيدًا يا فراشتي، أنشري فرحك، لا يسوغ التّشبث بالصّمت، فالصّمت أحيانًا مجرم خطير..."، وفي غضون لحظات عاد الرّذاذ ينزل بحنان، كأنّه يربّت على كتفيها، قائلًا لها: " سيكون كلّ شيء على ما يرام، لا تخافي...نحن معك..." وحين صوّبت نظرها إلى السّماء أبصرت قوس قزح عظيمًا يشقُّ طريقه في السماء بانسيابٍ كانسياب الفراشة في حضن الزّهرة...
وانفرجت أسارير وجهها عن ابتسامة عريضة ملأت وجهها الذي لم يعرف الفرح منذ زمن بعيد...
" نعم، كلّ شيء سيكون على ما يرام..." قالتها برضا، ثمّ استأنفت المسير صوب وِجهة تدرك عنوانها...
سهير شحادة- كفرياسيف
5/1/2022