الرّفيق فهيم هدوء الحضور وهدوء الغياب
(لروح الرّفيق فهيم جريس الذي غادرنا اليوم الإثنين 14/2/2022، كما تغادر الفراشة الحديقة تاركة فيها ألوانها وما جمعته من رحيق الأسدية)
منذ أن وعيتُ على الطّريق عرفتُه، كان يسير بتواضع وأناقة ورصانة، يتقدّم كنسمات الزّيب في حزيران، شهر النّكسة المُفجعة والانكسار الحارّ، يمسح حبّات العرق عن جباهنا برموشه، وينشل ماء الحزن من قلوبنا لكي يملأ الشّتاء القادم بئرنا بالماء المتعطّش للفرح الحالم.
كانت الفصول تتعاقب في كلّ شيء إلّا فيك، فكيف يسود مناخك كلّ أيّام الأعوام، ويعجز المتحوّل عن النّيل من الثّابت قيد شعرة من شعراتك المصفّفة كريشات الهدهد المستقرّة في مكانها الدّقيق المرتّب. كلّ الأمزجة تتقلّب متمرّدة على قوالبها، إلّا مزاجك يبقى مُخلصًا لأصله الرّزين.
لقد نجحت في تضليلي يا رفيق، عندما كنت تحمل أدوات الصّيد وتمضي إلى شاطئ البحر، تزيّن رأسك قبّعة القشّ الواسعة، ويتجمّل وجهك بابتسامة واثقة بحصيلة الصّيد الموعودة الرّاقصة في سلّة القصب، كنت تقف على تلك الصّخور ساعات طوالًا تستنشق هواءها، وتحضن سماءها، وتقبّل بهاءها، دون أن يسرق أحد لحظة انتباه من انشغالك بسحر الحسن المائج أمامك.
علّمني هدوؤك أنّ قوّة الموقف ليس بالصّراخ في طرحه، بل بالمثابرة على النّطق بحرفه، كأمواج بحرنا التي لا تكفّ عن التّصريح للغزاة: نحن هنا إلى أبد الآبدين. وقد علّمني حبّك لبلادنا ألّا نتصنّع القول، بل أن نعيش عشقنا لها كلّ لحظة في رحلة الصّيد على شاطئها العامر.
كنت منسجمًا مع طبيعة البلاد، فكان لسانك دافئًا كشمسها، شعاعها ينير المكان ويُدفئ قلب الزّمان. كم كنت تشبه شمس أيّار، شهر انطلاق العمّال إلى ميادينهم، والفلّاحين إلى حقولهم، "ففي أيّار احمل منجلك وغار"، وفي أيّار يتوّج الرّبيع رأس جليلنا بتاج أجمل بقعة في الأرض.
وكنت تعرف أنّها تستحقّ كفاح أهلها للحفاظ على لغتها العربيّة، فاتّحدت جهودك بنضال رفاقك لتحقيق السّلام الغائب والمساواة الحقّة والعدالة التي داسها المُضطّهِدون بأحذيتهم العسكريّة. هذه الطّريق جمعتنا بك، وبنخبة من أمثالك أيّها الرّفيق!
كنّا ننتظر أطباق الحلويات النّابلسيّة التي كنت تجتهد في إحضارها من جبل النّار، مُقطّرة مُعطّرة، ونكون بانتظارك على أحرّ من شهيّة الجمر، كم حلّيت مرارة أفواهنا بحلوك المعسّل! ويبقى هذا الحلو بنكهته الخاصّة يملأ فضاء طريقنا بسيرتك الطّيّبة المشرّفة، بزوجتك الفاضلة وبأبنائك وبناتك البارّين بأهلهم وبشعبهم وبانتمائهم لوطنهم وبالأخلاق التي غرستها فيهم.
يبقى أمثالك على شاطئ قلوبنا، يحرسون نسمات الزّيب الحبيب، لتُعيننا على تجاوز نكسة حزيران، وأحزان تمّوز، ولهيب آب. ونحن نبقى أوفياء لروحك ولخطواتك الهادئة والواثقة والمثابرة على طول الطّريق. ستبقى ذكراك العطرة ما بقيت الشّمس والبحر ولحظة في العمر، يا رفيقي العزيز، فهيم جريس!
إياد الحاج
كفرياسيف
14/2/2022