نثريّات رثائية فوّاحة بالمحبة من جَعْبَة الدكتور إياد الحاج بقلم: الدكتور منير توما
03/09/2024 - 07:19:56 pm

نثريّات رثائية فوّاحة بالمحبة من جَعْبَة الدكتور إياد الحاج

بقلم: الدكتور منير توما

كفرياسيف

الرثاء هو مَدْح الميْت بعد الموت والبكاء عليه، ويُقال: رثيتُ الميْت رثيًا ورثاءً ومرثاةً ومرثيةً: أي مدحتُهُ بعد موتهِ وبكيتُهُ، ورثوتُ الميْت أيضًا إذا بكيتُهُ وعددتُ محاسِنَهُ، وكذلك إذا نظمتُ فيه شعرًا. والرثاء أساسًا غرضٌ شعري عُرِفَ عند العرب وغيرهم من الشعوب منذ أقدم العصور، وعُدَّ من أغراض الشعر الهامة بشكلٍ خاص، والنثر بصورة عامة والتي أخذت حيزًا عند كل الشعراء والناثرين.

وهكذا فإنّ الأديب الدكتور إياد الحاج في كتابهِ النثري الذي يحمل عنوان "وجهي الآخر" الذي نحن بصددهِ، قد برز ناثرًا مجيدًا لامعًا في نثريات تتناول رثاء العديد من الأشخاص الأعزّاء والأحباء والمعروفين عند الكاتب في مجتمعنا.

يمضي الناثر في هذا الكتاب فيستعيد ذكرى أحبائهِ ويبعث الأنّات المخلصة خلف الميْت. ويصح أن يُقال في هذا النثر أنّه تطبيق للمحسنات البديعية.

 وحتى يقوم الناثر برثاء صديقه أو زميله أو أستاذه وغيرهم مثلًا لا بُدَّ أن يجد في صحبتهِ السعيدة حُبًّا وفي فُرقتهِ الأليمة مَيْتًا ما يوحي إليهِ بأعذب الذكريات واوجع الشجون، ذكريات الحياة وشجون الموت، فيتحدث الناثر الدكتور إياد هنا عن الأمس الذي لم يَعُد سوى الذكريات للخيال المؤرّق.

إنّ الدكتور إياد يجوب في ركن من أركان مدرسة نثرية تستحق الآن أن تُعرف بملامحها وان تستقل بعنوانها فلا تلتبس بمدرسة أخرى.

فالكاتب الناثر هنا لغوي عربي عصري ولكن على منهج فريد في بابهِ بين مناهج المدارس النثرية المحافظة والتجديد ومناهج الابتداع والتقليد.

لقد تكوَّن النثر في كتاب المرثيات هذا بلونٍ حزين تعتريهِ ما يشبه النفحات البكائية، وذلك بلغةٍ متينة تستحضر الأخلاق الكريمة والخصال النبيلة والسمات اللافتة للراحلين أو الراحلات من المرثيين. وبهذا نرى أنَّ الكاتب الدكتور إياد الحاج يجيد كل الإجادة في الرثاء والحسرة على فوات الشباب لعددٍ من الراحلين، فكان نثره خفيف الروح يملأ السامع أو القارئ بالإرتياح النفسي والسكينة الروحية.

إنّ هذا الرثاء الذي يتناوله بالكتابة الدكتور إياد الحاج يتميّز بأسلوبٍ رفيع الألفاظ والمعاني حيث أنّ هذا الرثاء يعبِّر عن معاناة صادقة يحسها احساسًا قويًا تتغلغل انعكاستها في النفس تغلغلًا مؤثرًا لأنها تعبِّر عن واقع إنساني أحسّه الكاتب وعاناه وطبيعي ان ينتقل احساسه الى القارئ فيتجاوب معه أصدق تجاوب، فالكاتب الناثر هنا متفجع لا يعنيه أن ينظم خاطرة مفصّلة ذات ارتباط متلاحم قبل أن يعنيه أن يصدق في رصد خواطرهِ المتدفقة في إطار الحزن الشامل. فالكاتب الناثر في معرض رثائهِ صديقًا أو عزيزًا أو جارًا أو ما شابه ذلك من ذكورٍ وإناث ومن مختلف الأعمار، يَهُم بهذا الرثاء حتى تسبق عاطفته الى الفقيد لأنَّ الأسى يبعث الأسى، والصدق واحد في عاطفة الحزن فهو إذن غير متكلِّف. إنّه بذكر الراحلين ورسم موكب الوداع إيحاءً، فإنّهُ ينظر الى الدنيا التي تلهمه بعض الحِكَم حول الموت والحياة، وكل ذلك توطئةٌ للتعبير عن مدى معزّتهِ للفقيد الراحل وتقديره له حيث تَعْبُر بهِ الذكرى الى تسجيل حادثة شخصية معه أو تطرّقه الى خصائص صادقة ملموسة من محاسن أو مناقب الفقيد اجتماعيًا وانسانيًا أو ثقافيًا مثلاً، وبالتالي فقد جاءت مرثيات الدكتور إياد الحاج في هذا الكتاب بأكثرها ذات خطين متوازيين شكلًا ومضمونًا بحيث أنّه بهذا النسق البياني الرائع يلج الى أعماق المشاعر فينزع من المواقف الشجيّة عند الإنسان ما يرسم الأحاسيس رسمًا قويًّا. وللدكتور إياد مع عاطفته وحكمته العاقلة وفكره البصير المتجلييْن في هذه القطرات الصائبة عن الحياة والأحباء، فهو يتحدَّث بحرارة عن معرفته أو صلته بالراحلين مرّات عديدة، والحق أنّ في نثرياتهِ هذهِ قد وجد في بعض الراحلين المرثيين مرثية تصوير رائع بحرارة الوجد.

ولا ريب في أنَّ اللغة في النثر هي القالب الذي يصبّ فيه الناثر أفكاره، ويجسِّد فيه رؤيته في صورة مادية محسوسة وينقل من خلال رؤيته للناس والأشياء من حوله، فاللغة تنطق الشخصيات، وتتكشف الأحداث وتتضّح البيئة ويتعرف القارئ أو السامع على طبيعة التجربة التي يعبِّر عنها الكاتب. ومن مميزات اللغة عند الناثر الكاتب الدكتور إياد الحاج السهولة والسلاسة في التعبير، فهو لا يلجأ الى مفردات تحتاج من القارئ أن يعود كثيرًا الى المعاجم اللغوية، فاللغة مطواعة تنساب منه في يسر وبساطة.

ومن الملاحظ أنّهُ من سمات اللغة في كتابته النثرية هذه أنّه قليلًا جدًا ما يلجأ الى الاستشهاد بالشعر في نثرهِ، وأسلوب الكاتب الناثر هنا هو أسلوب السلاسة والسهولة والوضوح، فلا تعقيد، ولا غموض، ولا ألفاظ غريبة، فهذا هو أسلوب المنطق في جو من العاطفة الصادقة والوجدان العميق من خلال صقل ألفاظهِ، واختيار منها ما ترتاح إليه الأذن، حيث اعتمد المحسنات البيانية في مواقف التخيُّل، وكان في العديد من نصوصه تظهر عنده اللغة الشِّعرية (poetic language) لا ينقصها في الكلام إلّا الوزن والقافية، وهو ذو أصالة فريدة في ابتكار المعاني والصور.

ومن الجدير بالإشارة الى أنّ الدكتور إياد الحاج بطبيعة الحال وكما جرت العادة في مواقف الرثاء أن يتبّع في مرثياته في هذا الكتاب السرد الوصفي (descriptive narration).

لأحداث بارزة في حياة الشخص الراحل، وسماته الإنسانية المحمودة أو الاستثنائية من خلال مواقف حياتية واحداث عابرة تشكلِّ اللغة أداة تعبير عن الكاتب والتي عن طريقها يشخِّص الكاتب ويجعل من الراحل المرثي كيانًا ملموسًا نابضًا بالحياة التي كان قد فارقها. ولا بُدَّ لنا أن نشير أنه بغير اللغة يستحيل الشخص المرثي الى صورة أو أي شيء مرثي يحتاج لمن يرسمه بالألوان، والخطوط، لكنَّ اللغة، بمالها من قدرة على الإيحاء والتعبير عن الإحساس، تستطيع أن تقدّم الأحداث في حياة الشخص في صورة يتحد فيها الزمن بالحدث المعين، بالموقف الشخصي، بالشعور الوجداني، بالرؤية الذاتية للكاتب مهما كانت مثل هذه الأمور أو الأحداث تمتاز ببساطتها وفقًا لما مرَّ أو جرى للشخص المرثي، ودائمًا يعمد الكاتب الناثر في استخدام تعابير تلائم بعض الأشخاص، وفقًا للبيئة التي هم منها متخذًا من الثناء والإطراء على الراحل أسلوبًا خاصًا بصورة تضفي عليهِ هالة من التواصل اللامنطوق للقارئ أو السامع مع الراحل المرثي، وقد لمسنا كل ذلك في معظم مرثيات كتاب الدكتور إياد الحاج.

وختامًا، يمكننا القول إنّ الكاتب الدكتور إياد الحاج قد كان في كتابه "وجهي الآخر" جلّي العبارة يدل على براعتهِ في التعامل مع المعاني وتبيان الفكرة حيث يتسِّم بمتانة سبكه النثري، وانطلاقة عبارتهِ، وصدق نبرته، فهو أبعد ما يكون عن التقليد، وأقرب ما يكون من الابداع والتجديد والاستقلال، فأسلوبه أسلوب المحدِّث اللبق يمتلك عليك انتباهكَ ومشاعرك، مما يدعوني أن أختم هذهِ المداخلة بثلاثة أبيات من الشعر لابن هانئ تعكس روح المعاني الرثائية التي وردت في كتاب الدكتور إياد الحاج الذي نتمنى له موفور الصحة ودوام التوفيق والعطاء والمزيد من الإبداع المثمر والنشاط الدائب.

واخيرًا، اليكم الأبيات الشعرية المشار اليها:

إنّا وفي آمالِ أنفسِنا

طولٌ وفي أعمارنا قِصَرُ

لنرى بأعيننا مصارِعَنا

لو كانت الألبابُ تعتبرُ

خَرسَتْ لعَمْرُ اللهِ ألسُنُنا

لما تكلَّم فوقنا القَدَرُ

 





المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق