هل يكتشف العلماء أسرار المادة والكون؟ هذا ما ستجيب عنه التجربة التي بدأ علماء في الفيزياء بتشغيلها اليوم قرب جنيف، وتهدف إلى كشف أسرار المادة والكون. وتم ضخ حزمة أولى من بروتونات الذّرة بعيد الساعة السابعة والنصف بتوقيت غرينتش في "نظام تصادم الجزيئات" أو ما يعرف بـ"Large Hadron Collider" أو LHC أختصارًا، وهو طوق يبلغ محيطه 27 كيلومترًا على عمق مئة متر تحت الأرض على جانبي الحدود الفرنسية السويسرية.
ومع بدء تشغيل التجربة التي استغرقت قرابة عشرين عامًا حتى الآن، تطلق مئات الملايين من بروتونات الذرة وجزيئاتها بسرعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلم. وينتج عن هذا كله 600 مليون تصادم بين الجزيئات في الثانية الواحدة، ويؤدي كل واحد من هذا التصادم إلى انشطار آلاف الأجزاء من الجزيئات، التي يتم تسجيلها ورصدها تمهيدًا للتعرف عليها.
وقال مدير المشروع لين ايفانز "بعد ضخ الحزمة كان علينا ان ننتظر خمس ثوان للحصول على المعطيات". ويفترض أن يسمح تصادم الجزيئات داخل النظام بكشف جزيئات إضافية لم ترصد حتى الآن من بينها ذرة هيغز الحلقة المفقودة في نموذج الجزيئات الثانوية التي تتألف منها المادة.
هل تكشف التجربة سبب وجودنا؟
واستغرق المشروع العلميّ حتى الآن قرابة عشرين عامًا، ويهدف العلماء إلى إيجاد إجابات على تساؤلات عظيمة بقدر عظم هذه الآلة، في محاولة لمحاكاة نظريَّة الانفجار الكوني العظيم أو ما يعرف بـ Big Bang للوقوف على الكيفيَّة التي تشكّل وابتدأ بها الكون، وكيف تكوّنت الحياة فيه بناء على النظريَّة التي يعتقد معظم علماء الفيزياء في العالم أنَّها الأقرب - افتراضيّاً - إلى ما حدث بالفعل.
وينتظر آلاف العلماء المشاركين في المشروع الحصول على معلومات أساسية عن المادة السديمية وعن اللغز الذي طالما حيرهم بشأن كيفية تحول المادة إلى كتلة وكيفية تطور الكون. ومن ضمن الألغاز التي يأمل العلماء في حلها من وراء المشروع هو إيجاد إجابة على السؤال، الذي طالما حير العلماء: لماذا لم ينتج عن الانفجار العظيم قدر متساو من المادة والمادة المضادة بحيث تنهي بعضها بعضا دون أن تبقي أي مادة لنشأة النجوم والكواكب والإنسان؟ أو بحسب تعبير عالم الفيزياء الألماني زيغفريد بيتكه: لماذا نحن موجودون من الأصل؟
وكان هذا السؤال الدافع لبيتكه وزملائه في معهد ماكس بلانك لتقديم مساهمات أساسية في مشروع المعجل النووي، إذ ساهموا في تطوير كشافات هائلة لرصد الجسيمات، التي تنتج عن كل انفجار في المعجل. ويقارب حجم هذه الكشافات التي تحمل اسم "أطلس" حجم منزل من خمسة طوابق. ويأمل العلماء من وراء رصد وابل الجسيمات الناتج عن الانفجار معرفة حقيقة العديد من جزيئات المادة المجهولة لديهم حتى الآن ومعرفة معلومات بشأن قوانين فيزيائية جديدة خاصة ما يعرف بجزيء هيجز المفترض وجوده في الكون والذي ينتظر العلماء من ورائه أن يفسر لهم سبب امتلاك الجزيئات لكتلة.
صادم الهدرون الكبير
وتعرف الآلة الضخمة التي تجري التجربة فيها باسم "نظام تصادم الجزئيات" أو "صادم الهدرون الكبير" أو "Large Hadron Collider" أو (LHC) اختصارًا، وهي موجودة في مركز أبحاث سيرن القريب من الحدود الفرنسية السويسرية. ووفقًا لمركز كيرن فإنَّ آلة LHC هي الأضخم التي شيدها الإنسان على الإطلاق، وبدأ العلماء بتشغيلها اليوم لتحقيق اصطدام بين جزيئات لمحاكاة ما عرف بعد ذلك ببداية الكون، في حال حققت التجربة النجاح المطلوب منها.
وحسب مركز كيرن، فإن LHC هو أضخم آلة شيدها الإنسان على الإطلاق. وتبلغ درجة الحرارة داخله سالب 271.3 درجة مئوية أي أقل بقليل من درجة الحرارة في الكون الخارجي، الذي تبلغ درجة الحرارة فيه سالب 270.4 درجة مئوية. وستصبح درجة الحرارة عند انفجار الذرات داخل "صادم الهدرون الكبير" مرتفعة أكثر بمائة ألف مرة منها في مركز الشمس. كما سيجبر مجال مغناطيسي أقوى مائة ألف مرة من المجال المغناطيسي للأرض الجزيئات على الانتظام في مدارها.
وتستخدم آلة LHC مغناطيسات عملاقة موجودة في ناقلات بحجم كاتدرائية لإطلاق إشعاعات من جزيئات الطاقة في نفق تحت الأرض طولة 27 كلم، حيث ستصطدم هذه الجزيئات ببعضها بسرعة الضوء، بينما تسجل أجهزة الكومبيوتر تفاصيل التجربة، ويحلّل نحو عشرة آلاف عالم فيزياء في أنحاء العالم كافة المعطيات والمعلومات للوقوف على سر تكون الكون وبداية الخلق.
وستحتاج التجربة إلى 120 ميجاوات من التيار الكهربائي وهي نفس الكمية التي تحتاجها مدينة مثل جنيف، التي يقارب عدد سكانها 160 ألف نسمة. ومن المنتظر أن يتم التصادم بين بروتونات الذرة بسرعة الضوء تقريبًا وأن تقطع 54211 دورة في الثانية في هذه الماسورة العملاقة تحت الأرض وستقطع مسافة 299780 كيلومتر في الثانية.
كلفة باهظة
وتبلغ تكلفة الـ"معجل هاردون التصادمي الهائل" ثلاثة مليارات يورو. ويشرف مركز "كيرن" الأوروبي لأبحاث الجزيئات على المشروع الفريد والذي حطم كل الأرقام القياسية المعروفة في مجال أبحاث الفيزياء والأبحاث العلمية بشكل عام. وستكون تجربة محاكاة الانفجار العظيم غير مسبوقة في حجمها ونوعها.
ويسعى العلماء في مركز سيرن، المشروع الأوروبي لبحوث الذرة البالغ من العمر 54 عامًا، الى الوقوف على أسرار "المادة السوداء" و "الطاقة السوداء"، والأبعاد الاخرى، وغيرها من الأمور ذات الاهمية الأساسية في معرفة كيفية بدء الكون وتشكله الى ما هو عليه الآن. ويقول روبرت إيمار المدير الفرنسي لمركز سيرن إنَّ "LHC سيغير نظرتنا الى العالم، ومهما كانت الاكتشافات التي سنخرج بها فالخلاصة ان ذلك سيزيد ادراك البشرية بشكل كبير من فهمنا لاصول الكون ونشأته".
احذروا الثقوب السوداء!
ولم يخل المشروع من تحذيرات وجّهها بعض المنتقدين من أنَّ التجربة قد تخلق ثقوبًا سوداء صغيرة ذات جاذبيَّة عالية التركيز، الأمر الذي قالوا أنَّه يسفر عن امتصاص الكرة الأرضيَّة برمّتها. ورفض العلماء في هذا المشروع الفريد من نوعه في العالم تحذيرات بعض المنتقدين من ان التجربة قد تخلق ثقوبا سوداء صغيرة ذات جاذبية عالية التركيز قد تمتص بقوتها الكرة الارضية برمتها.
ونظريّاً، يقول العلماء أنَّ الانفجار الكبير أو Big Bang وقع قبل نحو 15 مليار سنة عندما انفجر جسم بحجم قطعة النقد المعدنيَّة، ولها من الكثافة والحرارة ما لا يمكن وصفه أو تخيله، وفي وسط من فراغ المادَّة، حيث بدأ بسرعة في التمدد والتوسع لتتكون النجوم وتظهر الكواكب وبالتالي تنشأ الحياة كما نعرفها على الأرض.
نظريّة هيغز
وحسب نظرية عالم الفيزياء البريطاني بيتر هيغز، فإن الكون يتغلغل فيه نوع من المادة الهلامية التي تكبح الجزيئات بشكل يتفاوت مع تفاوت صفات هذه الجزيئات مما يمنحها الكتلة. ولا يكتمل تصور العلماء عن بناء المادة بدون هذه الآلية المفترضة. وأكد رولف ديتر هوير مدير مركز "كيرن" أن "نتائج القياسات التي أجريت في المعجلات السابقة بالإضافة إلى ما تذهب إليه نظرية هيغز تشير بوضوح إلى أن جزيء هيغز يقع بالتأكيد في منطقة الطاقة بالمعجل".
وأشار العالم الفيزيائي الأميركي ديفيد غروس الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2004: "غير أن جزيء هيغز لن يكون بالتأكيد الاكتشاف الأول لمركز كيرن". وتتوقع فرق الباحثين أن تستغرق معرفة حقيقة هذا الجزيء نحو خمس سنوات وأن "تسبقها اكتشافات أخرى مثيرة لم تكن في حسبان أحد" حسب غروس.
المادة السديمية المحيّرة
ومن غير المستبعد أن ينتج المعجل لأول مرة جزيئات المادة السديمية المحيرة للعلماء. فعلى الرغم من أن هذه المادة غير المرئية تشكل نحو 80 في المائة من كتلة الكون إلا أنها لا تعرف إلا من خلال قوة جاذبيتها ومازال العلماء يجهلون حتى الآن الجزيئات التي تتكون منها هذه المادة. ويأمل هوير في "أن يفتح مركز كيرن نافذة على هذا الكون السدمي" ويستدرك بالقول "لكن هذا ليس مضمونًا بالطبع غير أن احتمال العثور على مرشحين للمادة السديمية هو احتمال كبير نسبيا".
سباق نحو المعرفة
من جانب آخر يقول علماء بريطانيون يعملون في أعمق منجم في بريطانيا إنَّهم ربما تمكنوا من تحقيق تجربة أصغر من تجربة مركز سيرن، التي كلفت قرابة مليارات الدولارات. ويقول العلماء البريطانيون إنَّهم ربما سبقوا زملاءهم في المركز السويسري وبكلفة أقل بكثير من كلفة سيرن، وبنفق لا يزيد طوله على نصف كيلومتر، ولن يستغرق منهم أكثر من نصف الوقت الذي قد تستغرقه تجربة سيرن.