اللغة العربية نعمة أم نقمة ؟ قلم : جواد محمود حاج كفرياسيف
2012-08-31 17:59:53

اللغة العربية نعمة أم نقمة ؟  قلم : جواد محمود حاج                                                                                 

في السنوات الاخيرة ومع تطور وسائل الاتصال المختلفة بات من السهل التواصل بين الناس من جميع أرجاء الارض فقد حطمت التكنولوجيا أكبر حاجز ليصبح التقاء الحضارات أمرا مسلما به , حيث يتبادل الانام أفكارهم وثقافاتهم المتعددة والمختلفة بما في ذلك من مصلحة للبشرية كلها اذ أن التقاء الحضارات من شأنه ان يساهم في التطور, العلم والتقدم , فقد قال الله تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..." .
وكما هو معروف فلكل شعب أو قوم لغته الخاصة التي يتم التواصل بواسطتها بين أبناء القوم الواحد وقد حتم التقاء الحضارات بين الناس والشعوب المختلفة فهم لغة الشعب الاخر فأصبح قسم من الناس  من كل شعب متمرسا بلغة الاخر  المراد التواصل معه حتى يتم تبادل الافكار واستخلاص الفائدة من هذه الافكار  واقامة العلاقات الاقتصادية التجارية وغيرها , لكن يجب أن لا ننسى أن هنالك وعلى مر التاريخ شعوبا ودولا أحتلت شعوبا أخرى وفرضت سياستها وهيمنتها على الشعب الاخر مما شكل خطرا على ثقافته وحضارته وعرضها الى الوهن وحتى الزوال في أسوأ الحالات والاهم من ذلك أن لغة الشعب المحتل أو المستعمر تبدأ بالتغلغل في لغة الشعب الذي وقع تحت وطأة الاحتلال ,في الوقت الذي تبدأ به لغته الام  بالتضعضع والتلاشي شيئا فشيئا وهذا التهديد الاكبر اذ أن اللغة هي عامود أساس لحضارة كل شعب . كما أسلفت سابقا فأن تعارف اللغات هو بحد ذاته شيء ايجابي لدفع عجلة التطور وارتقاء البشرية ,لكن ذلك منوط بأن تبقى لغة الشعب الاصلية , لغته الام , هي المحور الاساسي فعليها كبر ونشأ واكتسب علمه وثقافته طوال حياته وعلم أجيالا كاملة . لغة الام هي اللغة التي يفكر فيها عقل الانسان ويصور الاشياء ويرسم الخيال , أي ان كسب المعرفة والمعلومات الجديدة وتذويتها يحصل عبر لغة الام اللغة الاولى التي تعلمها الانسان في صغره ( حتى وأن تعلمت شيئا جديدا بلغة أخرى فأن العقل البشري ودون أستأذنك يترجم الاشياء الى لغته الاولى ) .
نحن الشعب العربي والذي على رغم تعدادنا الهائل واختلاف مناطق سكنانا ودولنا , أختلاف لهجاتنا من دولة الى اخرى ومن منطقة الى أخرى فأن ما يجمعنا هي لغتنا العربية الفصحى التي تعتبر جسر التواصل بيننا لتناقل الآراء والافكار التي في دورها تقرب العقول والقلوب وتعزز الروابط بين أبناء شعبنا العربي .
لا أود أن أسهب في الحديث عن اللغة العربية وأهميتها والدور الذي تلعبه في حياتنا بشكل عام وأود أن أتطرق الى صلب الموضوع الذي أنا بصدده . نحن نعيش اليوم في عصر العولمة والتي هي اليوم أسرع من أي عصر ولى ونعزو ذلك الى وسائل الاتصال والامكانيات التكنولوجية المسخرة لخدمة الانسان , هنالك من يؤيد العولمة وهنالك من يعارضها لما في ذلك من تبعيات ايجابية وأخرى سلبية من ناحية ثقافية واقتصادية . كل هذه العوامل , العولمة والتقاء الحضارات وغزو الشعوب الاخرى كان لا بد لها من تترك تأثير واضح على اللغة والامثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى , فعلى سبيل المثال لبنان فهو متأثر جدا باللغة الفرنسية وقسم كبير من الناس يستعمل التعابير والكلمات الفرنسية في الاحاديث اليومية .
أحب أن أصور للقراء مشهدا يتكرر يوميا والسيناريو هو ذاته , من منا لا يشاهد البرامج التلفازية التي تبث في المحطات العربية ثقافية كانت أو ترفيهية , تجد المضيفين أو مقدمي البرامج وكذلك المستضافين يتباهون بدمج العبارات والتعابير من شتى اللغات منها الفرنسية والانكليزية فلا تمر جملة خلال النقاش الا وسارعوا بتزينها بتعبير أجنبي ظنا منهم أن في ذلك أمارة على مستواهم العلمي والثقافي العالي في حين أن هنالك بديلا وبكل جدارة باللغة العربية له معنا أكثر دلالة وتعبيرا ويترك وقعا أكبر في نفوس الناس والمشاهدين ويجب أن لا ننسى أن هنالك شريحة من المشاهدين ليسوا ملمين باللغات الاخرى والتعابير الغريبة هذه , والسخرية في ذلك المشهد عندما يقوم أحد المشاركين في النقاش في البرنامج بالسؤال عن معنى كلمة معينة باستهزاء " شو بقولولها بالعربي ؟ " !!! . لست ضد اللغات الاخرى وتعلمها والالمام بالعبارات المتداولة عالميا , لكن لا غنى عن لغة الام لغتنا العربية , فتكلم العربية وعبر يالعربية فلغتنا من أجمل لغات العالم فيها مخزون وافر  من المعاني والمفردات عجزت لغات الارض كلها في ان تضاهيها .
كان ذلك مشهدا واحدا من مشاهد كثيرة تشير الى تضعضع لغتنا العربية في العالم العربي بشكل عام وطبعا المقصود بذلك تضعضع اللغة بين أوساط عامة الناس وخاصتهم الذين يشغلون مناصب مرموقة في المجتمع وليس المقصود شريحة الكتاب والقراء والادباء والشعراء . والان أود أن أنتقل الى رسم صورة توضح حال اللغة العربية في بلادنا وحال الناس منها في المجتمع العربي الذي يعيش في اطار الخط الاخضر , طبعا هذه الصورة من منظور شخصي وفكر خاص بلورته أعتمادا على حقائق نعايشها يوميا في أرض الواقع فلكل شخص الحرية في موافقتي الرأي أو لا . أبدأ الحديث بالقول أننا حالة خاصة وشاذة عن باقي حالات العالم العربي فنحن شعب عاش أغلب أيامه وما زال يعيش تحت سطوة الاخرين من الشعوب وتحت وطأة الحكومات والسلطات المتعاقبة وهذه بحد ذاته كاف لأن يؤثر في حياتنا وطبعا على لغتنا . ففي يومنا الحالي نحن نعيش في دولة اسرائيل دولة اللغة العبرية , اذ أن كل مؤسساتها الحكومية وغيرها وطابع تعاملها باللغة العبرية فرضت على الشعب العربي أن يحتك في هذه اللغة حتى وجد نفسه ملزما أن يتعلمها حتى يستطيع العيش والتعايش فيها والا كان مصيره الضياع , اللغة العبرية فرضت علينا وأصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا فما من ورقة أو مستند أو حتى فاتورة الا وصيغت بالعبرية .
حتى أزيد من وضوح الصورة وتبيان معالمها أود أن أسرد مجرى حياة الشخص في هذه المدينة , تبدأ حياة الطفل العربي في بيته وبيئته بعد مغادرته المشفى, والبيئة هي التي تكسب الشخص شخصيته وتصقل معالمها وكل ما يعلم في الصغر ينقش على الحجر ويصعب أزاحته من ذهن الطفل , هنالك وفي تلك البيئة يكتسب الطفل أول اللغة ويبدأ المخ في تذويتها وجعلها لغة التواصل مع الاخرين التي عن طريقها يتعرف على البيئة من حوله , وهذا أول الخطأ الذي يقع ضحيته هذا الطفل , اذ أنه ليس على وعي أن ما يكتسبه هو مخطوء ومغلوط فما أن يكبر ويشتد عوده قليلا ويصل الى مرحلة تعلم اللغة العربية الفصحى الصحيحة في صف الثاني والثالث يكون قد تغذى بما فيه الكفاية على لغة مغلوطة مشوهة . في هذه النقطة بالذات يبدأ صراع الطفل أو الولد أذا صح التعبير بين ما أكتسبه في الصغر من اللغة العامية على مدار هذه الفترة واللغة العربية الفصحى التي هي بالنسبة له لغة ثانية أجبر على تعلمها , وما أن يلبث حتى يتمكن بعض الشيء حتى يتلقى صدمة اخرى فيجد نفسه مجبرا على تعلم لغة أخرى أو أثنتان وهي العبرية والانكليزية التي وبحسب رأي لا تمت بصله له وبالذات في هذه المرحلة من حياته اذ أن هذا هو الجيل الذي يبدأ الشخص بأكتساب  الطباع وصياغة الشخصية وبلورة الاراء والافكار , فيجد الطالب العربي نفسه في هذه المرحلة من الحياة متصارعا مع أربعة محاور . لذا يصح القول أن المشكلة في مناهج التعليم التي فرضتها السلطات على المدارس العربية . ينهي الطالب العربي دراسته الابتدائية ,الاعدادية والثانوية ولغته العربية واهنة اذ لم يحبها يوما ما ولم يلقى التشجيع الكافي ليبحث فيها ( هنالك الشواذ وهم قلائل ) فالتعليم ممل حيث أن تعلم اللغة العربية بالنسبة له كأنه موضوع علمي مثل الفيزياء والبيولوجيا وغيرها من المواضيع فكل ما يتوجب على الطالب فعله هو التحلي بذاكرة حادة ليحفظ قوانين الاعراب وشرح قصيدة لطرفة بن العبد أو عنترة بن شداد الذي أحب أبنة عمه عبلة , ليجيب في النهاية على أسئلة روتينية أكل عليها الزمان وشرب .
لم توجد ولم تنوجد حتى الان في أغلب الاطر التعليمية المدرسية وسائل تنمي الفكر في اللغة العربية فمعلمي المدارس ومدراءها موجودين في حكم المفعول وما باليد حيلة حتي يغيروا المناهج وطرق التعليم , لكن على الرغم من ذلك وبالرغم من المناهج المجحفة , وجب عليهم كأصحاب رسالة ومربين للأجيال خلق بيئة مشجعة على المطالعة وحب القراءة وزرع روح المعرفة والاستطلاع في نفوسهم ( قليلون من يفعلون للأسف) حتى لا يتم تخريج أجيال تفتقر الى الثقافة وهي أحدى مقومات المجتمع السليم .
يكبر الطالب العربي ويندمج في الحياة الجامعية اذا أكمل تعليمه وهناك يختلط بالشعب الاخر ويوطد علاقته بلغة غير لغته ليتلقى كامل تعليمه باللغة العبرية والانكليزية فيصبح التأثير أعظم, فأغلب ما يقرأه ويراه هو العبرية وبشكل لا واعي يصبح حديثه مزيج من العبرية والعربية والانكليزية حتى أن في أسوا الحالات تطغى الاولى على طابع الحديث , وهنا يكمن الخطر الاكبر الذي يحدق بمجتمعنا, فأبناء الجامعات والمعاهد العليا رواد المستقبل , قسم لا بأس منهم نسي أن لغته العربية هي منبعه ومصدر ثقافته الاساسي والبعض الاخر يفاخر بأنه يعرف التحدث بالعبرية بطلاقة ويبدأون بالتحدث في قراهم ومدنهم بلغة طابعا الاساسي عبري ويحسبون أن ذلك دليل على مستوى عال من الرقي والثقافة لكن العكس صحيح هذا شيء مؤسف ومخزي , فاذا سألته أن يكتب لك موضوعا صغيرا يعبر فيه عن فكرة معين أو راي ما عجزت انامله عن أمساك القلم ويقوم باجابتك على الفور متبسما " يا زلمي أنا وينتا صدقت على الله أخلص من موضوع الانشاء في البجروت " .
نسبة مقلقة من شبابنا وشاباتنا  هجر القراءة والكتب , حتى أن قراءة الصحف والمجلات باتت شبه معدومة وأصبح الصديق الوفي للشباب العربي الحاسوب والاجهزة الذكية التي نادرا ما يتم أستخدامها في منفعة تعود على مستعمليها . لا يمكن لنا أن ننكر أن اللغة العربية ضعيفة وركيكة على الرغم من غناها وغنا ثقافتنا العربية التي عزفنا عنها وأخذنا نبحث في سطحيات الامور لدى شعوب أخرى , نأخذ كل ما يضرنا ويأخذون هم منا كل ما ينفعهم . واذا أردت الاستشهاد ببعض الحقائق فأفضل ما يكون هو خوضي تجربة البسيخومتري بدور الطالب ودور المرشد , فأنا شخصيا واجهت صعوبة في بداية مشواري ولاحظت كم نحن نفتقر الى اللغة العربية وبدوري كمرشد في تحضير الطلاب للأمتحان لاحظت ضعفا لدى غالبية الطلاب في قسم التفكير الكلامي اذ أنهم يستعصون الفهم والاستنتاج من قطعة فهم مقروء أو غيرها من الاسئلة كما أن ثروتهم اللغوية شحيحة . الاحصائيات المنشورة في المركز القطري تشير الى ذلك اذ أن علامات المتقدمين للأمتحان من جميع الفئات العمرية وعلى أختلاف مستواهم التعليمي هي منخفضة نسبيا للقسم الكمي ( التفكير الرياضي ) واذا ما قارنا ذلك بنتائج الوسط اليهودي لوجدنا الوضع أسوأ بكثير .
تداعت في الثلاث سنوات الاخيرة أنباء عن أن المركز القطري للامتحانات والتقيم يريد أدخال قسم جديد على مبنى الامتحان وهي المهمة الكتابية أو ما يسمى الكتابة التفكيرية  والتي فيها يطلب من الطالب التعبير عن رأيه في قضية ما . ما أن تم تناقل هذه الانباء في الوسط العربي حتى بانت بوادر القلق على جميع الطلاب وحتى المعاهد نفسها التي تقوم بتحضير الطلاب للأمتحان وكيف لا وهنا تكمن نقطة ضعف الوسط العربي كله , فقام المركز القطري بأضافة الملح على الجرح وزيادة الطين بلة باتخاذ قرار بادخال القسم التعبيري بشكل نهائي الى مبنى الامتحان . بدلا من أن يكون هذا التغير نعمة على الطلاب وفرصة لابداء قدراتهم الابداعية والتفكيرية في نقاش أي موضوع يطرح وابداء رأيهم بشكل جريء , جاء ليكون نقمة على الطلاب العرب وكان واضح للجميع منذ البداية أن العلامات ستكون أقل مما هو معتاد على الرغم من عدم خوض التجربة في الكتابة حتى الموعد الاخير من الامتحان لكن التوقعات التي بنيت في المخيلة كانت سلبية وحسب رأي هذا ما يمهد لحدوث ما هو متوقع في بداية المشوار مع الكتابة , لكن  الوجه "الايجابي" في ذلك أنه ومع مرور الوقت سوف يتأقلم الطالب العربي مع هذا التغير عن طريق تعزيز علاقته مع اللغة العربية ليعاود الارتقاء الى نقطة البداية والتي هي في الاساس متدنية .
لقد تعرضت لغتنا للغزو من قبل اللغات الاخرى وقد ساهمنا نحن اسهاما كبيرا في السماح لهذا الغزو أن يتعدى الخطوط الحمراء وسمحنا للغات الاخرى بالتغلغل الى عقولنا فأصبحت لدى الكثيرين اللغة العربية بمثابة لغة ثانوية مهمشة وضعت على الرف متروكة للغبار ليتكدس عليها . لذا علينا كمجتمع عاقل مدرك لما يدور من حوله أن نوقف هذا الغزو وأن نعيد أحياء اللغة العربية الاصلية بين جميع الناس وليس حصرا على المتعلمين والكتاب , فبلغتنا البليغة نستطيع اعادة مجد ثقافتنا وصنع الجديد والانتاج منها فهي أساس تقدم البشر والشعوب وباحياء اللغة تحيا العقول والقلوب وهذا بدوره يزيد من ترابط الناس وزيادة وعيها في معرفة هويتنا العربية .
على كل فرد منا البدء بنفسه أولا فصلاح الفرد من صلاح المجتمع , فأقرأ باسم ربك الذي خلق , الذي علم الانسان ما لم يعلم واطلب العلم من المهد الى اللحد .
وفي النهاية أود أن انوه أني لست بكاتب ولا شاعر ولا فيلسوف عصري , فأنا طالب جامعي أحد أبناء هذا المجتمع عشت وأعايش ما ذكرته في فقراتي السابقة وأرى أن من واجبي أن أنبه أبناء مجتمعي لعله في كلماتي هذه أكون سببا لصحوة بعض الشباب والشابات جيل المستقبل الذي تقع عليه مسؤولية الحفاظ على هويتنا وقوميتنا التي تتجلى بالاساس باللغة العربية , فمن ضاعت هويته صار بين الناس غريبا .

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق