تنزلُ المصيبةُ علينا حارّةً حارّةً في تموزَ، بما يكفي لينضجَ التّينُ والعنبُ والصّبرُ، الذي يصبحُ أشهى حينَ يكونُ طيّبًا وجميلًا. لا يتلطّفُ بنا القدرُ، ولا يترفّقُ، ولا يأخذُ شيئًا من مشاعرِنا بعينِ الاعتبار وإنْ ذرّفتْ لوعةً وأسًى. تَرمينا المصيبةُ بهولِها وروعِها، بفظاعتِها وفجيعتِها في غفلةٍ مباغتةٍ للألبابِ والأفئدةِ. يا طاحونَ الزّمنِ القاسي، هذا لحمُ أيمن درويش ولمــــّا يتجاوزِ السّادسةَ والأربعينَ عامًا! أيّها البحرُ العالي، هذا جسدُ الوالدِ الذي هجمَ عليكَ حاسرًا حافيًا عاريًا من خوفِ السّباحينَ منكَ، ليقدّمَ نفسَهُ قربانًا لعفوِكِ عن فَلذةِ كبدِهِ، محمد، ألا تفرّق بينَ قبطانِ السّفينةِ الحربيّة، وبينَ فارسِ الأبوّةِ الوفيّة؟!
تُعزّينا القريةُ الثاكلُ أهلُها، تتجمّعُ هلالًا في ليلةٍ ظلماءَ، من كنيسة القدّيس جوارجيوس، إلى جامعِ النّصرِ، إلى مقامِ الخضر، يشكّلُ الموكبُ صليبًا ينزفُ وجعًا بخمسةِ ألوانٍ. تفيضُ جداولُ الحاراتِ: البيادر، الحارة الشّرقية، وعرة الخطيب، الشُّختبة، المراح، العين، صنيبعة، دار الغربية في مجاري الدّمعِ المتدفقة على وجهِ القريةِ. قريةٌ تحملُ تابوتًا يتماوجُ في بحرِ من الأكفِّ المرفوعةِ والصّدورِ المدفوعةِ، لا تلبثُ الكفُّ لحظةً تحتَ جمرِهِ حتّى تُثَبِّتَ أختُها قبلةً مكانَها، على ألواحِ خشبٍ تحملُ غاليًا محمولًا على لهيبِ البحرِ المشتعلِ تحتَهُ.
تُعزّينا أمٌّ يتعدّى قلبُها حدودَ القريةِ المضطّربةِ، تنزعُ وشاحَها عن أهدابِ البروة التي تُحبُّ الحياةَ، وتعلمُ أنّ على هذه الأرضِ والدًا يعشقُ ابنَهُ أكثرَ من حبِّهِ لنفسِهِ، لذا فهنا ما يستحقُّ الحياةَ، فلا تخجلْ من دمعِ أمِّكَ، يا زينَ الشّبابِ، يا أيمن! تحتضنُكَ أبوسنان، وتتسابقُ جديدة والمكر على تقبيلِ وجنتيكَ، وتبسطُ عكا وقضاؤها ذراعَيها الصّلبتينِ هازئةً من البحرِ، و"يا خوف عكا من هدير البحر".
يُعزّينا عزيزُكَ الغالي، وغاليكَ العزيزُ، محمد، أهلُهُ قريتُهُ، وأعمامُهُ وأخوالُهُ عمومُ المنطقةِ. ابتسامتُكَ الخجولةُ على مُحيّاكَ الجميلِ، يا محمد، هي فجرُ يومٍ جديدٍ يُشرقُ تفاؤلًا وأملًا وحبًا. يموتُ أيمن ليحيا محمد، يغيبُ المــُحِبُّ الوفيُّ ليــُشرِقَ وجهُ المحبوبِ المنيرِ. حياةٌ قربانُها حياةٌ، فكيفَ نقدّرُ قيمةَ هذه الحياةِ؟! إنّها مقياسٌ لقيمةِ الأشياءِ، لكنّها أكبرُ من كلِّ شيءٍ على هذه الأرضِ.
تُعزينا سمعتُكَ الطّيبة التي زرعتَها على أطرافِ البيادرِ، فأزهرتْ ذِكرًا حسنًا، ونشرتْ عطرًا زكيًا فوّاحًا تحملُهُ نسماتُ الزّيب فوقَ جناحَيها، فتضيقُ بهِ، فينقطُ في الطريقِ، على رؤوسِ الجبالِ والشّجرِ والنّاسِ ندًى في ليالينا، ينزلُ بردًا وسلامًا. تمضي عاصفةُ البحرِ بأمواجِها العاتية، وذكراكَ الطّيبةُ بينَنا باقية.
تُقَصِّرُ هذهِ الكلمات عن تقديمِ التعزيةِ باسمِ رفاقي في الحزبِ الشّيوعيِّ، وفي الجبهة، في كفرياسيف والمنطقة، فنحنُ من أهلِ المـــَصاب، وجرحُنا لمـــّا يَرْقــــَأ نزيفُهُ، ولكنَّ أفرادَ العائلةِ يُعَزّونَ بعضَهم، بعدَ استيعابِ الفاجعةِ. لفقيدِنا أيمن الرّحمة، ولكم من بعدِهِ طولُ البقاءِ!
إياد الحاج
كفرياسيف
16/7/2018