المرآةُ الصّغيرة
وقفتْ اليوم أَمام المرآة قبل خروجها من المنزل، وراحت تتأمّل بإعجاب معالم وجهها حديثة الطّراز؛ أنفٌ أقنى وشفتان مملوءتان أنوثة وإغراء، الحاجبان مرسومان كأنّهما جِسران خشبيّان معلّقان في فضاءٍ مُحرَّرٍ من أيّ قيودٍ. والوجنتانِ ارتفعتا كرابِيَتَيْنِ اصطبغتا ببساطٍ ورديٍّ مخمليٍّ. واعتلت فوقهما لؤلؤتان زرقاوان تشعّانِ سحرًا ممزوجًا بغموضٍ جذّابٍ...بعد أن كانتا بالأمس حبّتَيْ عِنبٍ سوداوينِ تقطرانِ حلاوةً وعذوبةً.
طغت ابتسامة كبيرة على محيّاها، وهي تقول في سِرِّها:
" الجمال نِعمةٌ...وأَنا أحبّ الجمال!!"، وثّقتِ الصّورة ورفعتها لتحتل الحيِّز الأكبر على "الإنستغرام"...
المتابعون كُثرٌ والتّعليقات أكثر:
" كم تشبهينَ الفنّانةُ تلك...الملامح ذاتها!!"
" فعلًا، تغيّرتْ هيئتكِ...أنتِ تبدين أجمل!!
"لو كنتُ مكانك لَ........."
كلام يطول ولا ينتهي، والأحلام تُنسَجُ من جديدٍ، وأفكارٌ تتكاثر دون توقّف...تشعر بأنّها ما عادت تعرف البداية ولا تدرك النّهاية! الأمر الّذي جعلها تشعر بِنشوةٍ ترفع بِقدميها عن الأرض...بعيدًا عن النّاس والطّيورِ والشّجر...تحلّق في عالمٍ ورديٍّ مُخَدَّرٍ، لا تريد تركه، كأنّها وقعت في قبضتهِ الخفيّة وهي ممتنّة لذلك...
استقلّت مركبتها وانطلقت تشقّ طريقها في الشّارع المزدحم، وعيناها ترفضان إلّا أَن تُحَملِقا تارةً في المرآة الأماميّة...وتارةً في حسابها...في عالمها الافتراضيّ...
كيف لا وهي تعيش في انبهار مستمرٍّ من الرّدود، لا يقطعه سوى صوتُ "زمّارة" يصدر من إحدى المركبات؟!
إحساسٌ من الشّغفِ يملأُ كيانها، يشعرها بأنّها سيِّدةُ العالم بأَسرِهِ، وهو شعورٌ لم تعهدهُ من قبل...
إِنّها تعشق المرايا، وهي من الأُناس الّذين يزرعون المرايا على أَشكالها المختلفة في كلِّ ركنٍ وزاوية. وأفضلها تلك الصّغيرة الّتي لا تغادر الحقيبة مهما اختلف نوعها، حجمها و"ماركتها" العالميّة. وهي أَيضًا من الأشخاص الّذين يستمتعون بقضاء الوقتِ بالقربِ من البحيرات الهادئة والظّلال، بعيدًا عن جداول المياه الجاريّة الّتي تنبض بالحياة، فَعند البحيرة تستطيع أن تلمح هيئتها البهيّة تنعكس على وجه البحيرة في سكونها الدّائم.
اليوم... وثّقَ المحقِّقُ تقريره عن الحادث الأليم الّذي وقع على الشّارع السّريع بناءً على بيانات وتحقيقات أوّليّة في موقع الحادث تشير إلى أَنَّ تَشتُّتَ ذهن السّائقة أدّى إلى اصطدام مركبتها بحاجزٍ حجريٍّ...
هي في فراشها الان...تشعر بدُوار حادٍّ يجعلها تعيش في غيابٍ عن الواقع وَحالةِ تدَحْرجٍ في أروقة الخيال... تقلّبات وأفكار وأخبار...
وصل إلى مسامعها بأنها ستعاني من تشوّهات في جسدها ووجهها ...هذا الوجه الّذي اكتسى بقماشٍ طبيٍّ أَبيض اللّون، لا يمكنه إدراك النّور بل مجرّد توهّجات تذهب في حينٍ ثمّ تؤوب...
تألّمتْ بصمتٍ وبكتْ بِصمتٍ...لم يسمع أَنينَها غير عصفور السّنونو الّذي كان منشغلًا في بناء عشٍّ صغيرٍ على حافّةِ نافذة الغرفة.
وقف على طرف وسادتها كأَنّه يحاول تعزيتها والتّخفيفِ من أوجاعها، وهي في المقابل تمنّت أن تعود مثل عصفورةٍ صغيرة مجهولة، لا يعرفها أحد، ترفرف بعيدًا عن سَطحِ مياه البُحيرات والظّلال وزجاج النّوافذ، وبعيدًا عن كلّ أشكال المرايا...
تذكّرت حقيبتها وأغراضها والمرآة الّتي لم تفارقها أبدًا، تلك المرآة...تركتها دون رجعة.