رؤى الكاتب صبحي فحماوي في روايتهِ «هاني بعل الكنعاني»
بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف
سنتناول في مداخلتِنا هذه روايةَ «هاني بعل الكنعاني» للكاتب صبحي فحماوي حيثُ أنَّ هذهِ الرواية هي رواية تاريخية زاخرة بالمعلومات والأحداث التي تتمحور حول عالمين متوازيين تفصلُ بينهما البحيرة الكنعانية المعروفة بالبحر الأبيض المتوسط ، فالعالم الأوّل هو العالم الروماني الذي يقع في شمالهِ وعالم قرطاجنة في جنوبهِ وشرقهِ .
تسوق الينا هذهِ الرواية قائدًا تاريخيًا كنعانيًا إشْتُهِرَ بإنجازاتهِ العظيمة يدعى «هاني بعل» الذي كان ينبغي أن يؤسسَ مملكةً ذاتَ شأنٍ ، وقد قام الكاتب صبحي فحماوي بمحاولةٍ جريئةٍ لإنصافِ الحقبةِ التاريخيةِ التي تميّزت بوجود وبروز قائدٍ عظيم قلَّ مثيلُهُ في التاريخ .
تُبَيِّن لنا رواية «هاني بعل الكنعاني» أنَّ بطلَ الرواية قد سعى بكلِّ ما أوتي من قوةٍ وجهدٍ أن يُحَرِّرَ شعبَهُ والشعوبَ الأخرى المجاورةَ من ديكتاتوريةِ وتعسُّفِ وقهر الحكمِ الروماني ، ومع ذلك فقد اساءتْ تلكَ الشعوب إليهِ رغم نيتهِ المخلصةِ لتحريرِهم من المتمولين والمتنفذين من حكامِهِم .
وقد كان هاني بعل أو هنيبال (247 ق.م – 182 ق.م) تاريخيًا قائدًا عسكريًا قرطاجيًا من عائلة فينيقية عريقة وذا موهبة عسكرية حربية فائقة . ويعتبر من اعظم القادة العسكريين في العصور القديمة ، امثال الاسكندر المقدوني ، يوليوس قيصر ، وفي العصر الحديث قادة امثال نابوليون بونابرت . وتعود شهرة هاني بعل تاريخيًا الى ما فعله في الحرب البونيقية الثانية حيث زحف بجيش من ايبيريا الى جبال البيرنيس والألب في شمال ايطاليا وهزم الرومان في سلسلة من المعارك . واحتل معظم ايطاليا وحاصر روما خمسة عشرَ عامًا . أما اسم هاني بعل أو هاينبال فهو الاسم اللاتيني (وفي اليونانية هانيباس) للاسم القرطاجي المذكر هاني بعل والذي يعني الإله «البعل كريم» (Baal is Gracious) .
يهدفُ الكاتب في هذه الرواية الى إعادةِ تدوينِ التاريخِ الكنعاني من وجهةِ نظرٍ كنعانية تعتمدُ على سيرةِ «هاني بعل» وما كتبهُ عن نفسِهِ حيثُ قام الكاتب بتوظيفِ التاريخِ لعرضِ مسائلِ إنسانيةٍ ، ومواضيعَ وقضايا ذاتَ مضمونٍ يختصُ بالحربِ والسلام ، العدل والظلم ، والحب والبغضاء ، والإخلاص والجحود والتنكر للأوفياء . وهذهِ الثيمات تشكِّلُ صفاتٍ بشريةٍ يتمُ تداولُها عبرَ مختلِف الحِقبِ الإنسانيةِ والأماكنِ البشريةِ مما يشيرُ الى أنَّ هذهِ الرواية تمتُّ بصلةٍ وثيقةٍ الى الواقعِ الإنساني رغمَ علاقتِها المتينةِ بالتاريخ .
من الملاحظِ أنَّ الكاتبَ قد اتبّعَ أسلوبًا فريدًا من نوعهِ في طريقةِ سردهِ للرواية تختلفُ عما هو مألوفٌ ومعتاد ، فتوزعتِ الأحداثُ المرويةُ بشكلٍ متساوٍ ومتكافئ ما بين السهرات في المسرح على لسان الحكواتي ، وبين وقائع أحلامهِ التي حاور فيها هاني بعل شخصيًا في مراحلِ حياتهِ المختلفة . وهنا نجدُ أنَّ الكاتب صبحي فحماوي قد أدخلَ نفسَهُ في الرواية ومَنَحَها سمةَ الدور البطولي ، وذلكَ بتكليفٍ من بطلِها «هاني بعل الكنعاني» بغيةَ انصافِهِ تاريخيًا ، ويعود السببُ في ذلك الى امتعاضِهِ من تشويهِ سيرتهِ التاريخيةِ المجيدةِ من جانبِ الرومان الذينَ كانوا يَكنّون ويضمرون له الحقدَ والكراهيةَ ، ومِن قِبَلِ بعضِ المؤرخين العرب الذين اساءوا إليهِ بتشويهِ تاريخِه والتلاعب بسيرتهِ الناصعةِ ، وبالتالي فقد رأى «هاني بعل» أنّ الوسيلة الصحيحةَ المتوفرةِ لإيصالِ رسالتهِ لسُلالِهِ حَفَدتِه الكنعانيين هو الكاتب صبحي فحماوي . ومما يسترعي الانتباه أنَّ «هاني بعل» قد خاطب صبحي فحماوي بإسمِهِ عدة مرّات مما يجعلُنا نَعْتقد أنّ صلتَهُ أو علاقتَهُ بالكاتب صبحي فحماوي وثيقة قوية ويعرِف مدى صدقيتِه .
يقدِّم لنا الكاتبُ في هذه الرواية حيثياتِ الصراع بين الرومان وبين القائد القرطاجي «هاني بعل» ونحنُ نلمحُ من خلالِ إهداءِ الكاتب في الرواية الصراعَ على التسميةِ بين كلمة «البحيرة» التي تنتسبُ الى الكنعانيين ، وبين البحر الذي ينتسب الى الرومان . فالإهداء يعكسُ ذلك الصراعَ حيثُ يقولُ الكاتبُ في اهدائِهِ : «الى البحيرة الكنعانية التي حُوصِرتْ ولُوِّثتْ فصارتْ تسمى البحر الأبيض المتوسط» وإذا لجأنا الى رمزيةِ كلمةِ البحيرة نجدُ أنّها ترمز وتمثلِّ القضية الرئيسية أو الأمر الأصلي (prime matter) أي صراع على البحيرة الكنعانية ، وكذلك تمثِّل معطي ومانح الخصب (giver of fertility) والى مياه الرحم (uterine waters) من ناحية الأم باعتبار هذه البحرية الكنعانية هي أم الصراع مع الرومان وتنتمي الى أمومة كنعانية بالمعنى المجازي للكلمة ، وهي تشكِّل رمزيًا مصدر القوة الخلّاقة (source of creative power) ، والى الانتقال من الحياة والموت بالمعنى الهدّام التدميري للكلمة بوصف الصراع القائم مع الرومان هي معارك حياة أو موت، وهذا الصراع المتمحور حول البحيرة الكنعانية متأصِّل برمزية اللاوعي (the unconscious) في ذهنية ومخيلة القائد هاني بعل الذي يمثِّل له الصراع على البحيرة في الرواية الغامض والخفي (the occult – the mysterious) أما البحر فيتميز برمزية اكتر اتساعًا بحكم حجمه الشاسع فيرمز الى العظمة والفخامة (grandeur) والى القوة المحركة الديناميكية (dynamic force) تماهيًا مع شدة الصراع ، وكذلك يرمز البحر هنا الى الحياة العالمية (universal life) لكون البحر الأبيض المتوسط ذا أهمية واعتبارات عظيمة الشأن عالميًا ، والصراع حوله يرمز الى الخراب والأسى غير المحدود (unbounded desolation) ففي ذلك موت وتجدّد ، وهنا تكمن رمزية البحر في الحرب والمعارك ؛ ومن الجهة الأخرى يرمز البحر الى مصدر الحياة بالإضافة الى الشوق للمغامرة (longing for adventure) والاستكشاف الروحي (spiritual exploration) لإيمان هاني بعل روحيًا بصدق قضيته في صراعه مع الرومان وكأنها مسألة ضمير (conscience) تجاه شعبه وبلده ، فالبحر في مثل هذه الحالة يرمز الى الأبدية (eternity) في تحصيل الحق والى الحرية (liberty) في التصرُّف والمصير والوصول الى مرحلة تطهير النفس (purification) عبر رمزية البحر بكونه يمثِّل الاحتدام غير المروَّض (untamed wildness) في إتقّاد الصراع بالمعارك بين هاني بعل الكنعاني والرومان . ومما تجدرُ الإشارة إليهِ هنا وجود مفارقة (irony) في أنّ العربَ كانوا في القدمِ يُطلِقونَ على البحر الأبيض المتوسط «بحر الروم» حيثُ أن تسميتَهُ بالبحر المتوسط يعودُ الى كونهِ يتوسطُ أملاكَ الامبراطوريةِ الرومانية . وبهذا يتضحُ أنَّ كلِّ المعاركِ والحروبِ التي جَرَتْ بين الرومان وقرطاجنة بقيادة هاني بعل الكنعاني كانت تهدفُ الى السيطرة على المكان .
وإذا أخذنا هذا الأمر على الصعيد الإنساني ، فإننا نستنتج أنّ القائد هاني بعل الكنعاني يُجَسِّدُ الجانبَ الذي يستثمرُ كلَّ قواهُ وطاقاتِهِ لاحقاقِ الحقِ وارجاعِهِ الى أصحابهِ المقهورين بقمعِ وبطشِ الرومان .
لقد كان هاني بعل فارسًا يتحلّى ويتَّسِمُ بالاخلاقِ الكريمةِ النبيلةِ التي برزتْ في ممارساتهِ الانسانيهِ أثناءَ خوضهِ الحروبِ وتحقيقهِ للانجازات المتعدّدة ، كذلك نجدُ أنَّ هاني بعل قد كان مولعًا بحب الوطن والتضحية من أجلهِ ، وكان يرمزُ الى العدلِ والرحمةِ حتى مع أعدائهِ وخصومهِ الأَلدِّاء من الرومان ، فإذا قُتِلَ أحدُ القادةِ الرومان ، كان يضعَهُ في تابوتٍ بكلِ احترام ، بعكسِ الرومان الذين كانوا يمارسونَ كلَّ مظاهرِ العبثِ والتمثيلِ بالجثة انطلاقًا من الغطرسةِ والوحشيةِ والانتقام . وخيرُ دليلٍ على تمتُّعِ هاني بعل بالقيم والفضائل الانسانية كونُهُ يمتازُ بشخصيةِ القائدِ المتواضع ، المتفاني في خدمةِ شعبهِ وجنودهِ دونَ أنْ يعيشَ حياةَ الرفاهيةِ والترفِ ، وقد قضى نحوَ أربعينَ عامًا في قتالِ أعدائهِ وانتصارِه عليهم . وكلُّ ذلكَ عبارة عن تجسيدهِ للكرامةِ والحريةِ والحبِ الإنساني تجاه الآخرين . فقد صرّح في عدةِ مواضعَ في الرواية بأنّ هدفَهُ من احتلالِ روما ليسَ الانتقام ، وانما كي ينشرَ الحريةَ والعدالةَ فها هو يقول متوجهًا الى ضباطِهِ بالكلام :
«نعم احتلال روما نفسِها ، ليسَ لاستعبادِها والسيطرةِ عليها كما يفعلونَ هم بنا ، ولكن لتخليصِ الشعبِ الروماني من سيطرةِ الطُغمةِ الحاكمةِ المتسلطةِ على رقابِ العباد في بلادها ، وعلى كل البلادِ الكبرى المتوجهةِ لاحتلالها ، وإلّا فسيفشلُ صراعُنا مع روما كليًا .. نريدُ أنْ نحوِّلَ روما من دولةٍ مفترسةٍ تعادي الآخرين ، وتحطِّمُ كراماتِهم ، وتنهبُ ممتلكاتِهم ، الى دولةٍ جارةٍ ، مُحِبّةٍ للشعوب ، مزارعةٍ وصانعةٍ ومتاجرةٍ معنا ومع غيرِنا من بلادِ العالم» . (ص62). وينوّه الكاتبُ الى تَمَسُّكِ هاني بعل بعقيدتِهِ العسكريةِ وبالحسِّ الديني البونيّ ، الذي تقاسَمهُ قادةُ قرطاج ، فكان هاني بعل يسترشدُ بتوجيهاتِ الالهِ بعل في سلوكياتِهِ وممارساتِهِ تجاهَ سكانِ البلادِ التي يدخُلُها ، فهو لم يَدَّعِ الألوهيةَ كما فعلَ غيرَهُ من القادةِ أو الزعماءِ الذينَ اعتبروا أنفسَهم في منزلةِ الآلهةِ .
علاوةً على ذلك ، فإنّنا أيضًا عند سماعِنا الحوار بين الكاتب صبحي فحماوي والقائد هاني بعل صفحة 163 من الرواية ، نرى صبحي فحماوي يخاطب هاني بعل قائلًا له : كيفَ تحملّتَ البردَ وشظفَ العيشِ كل هذا العمر في معسكراتٍ ليس فيها وسائلُ الرفاهيةِ ؛ فيجيبُهُ هاني بعل : إنّهُ الشعورُ بمسؤوليةِ حمايةِ الوطنِ يا أخي فحماوي ، قد يكونُ قَدَري هو العيشُ بهذِه الطريقةِ ما دمتُ أقسمتُ لوالدي أنْ لا اتخاذلَ أمامَ العدوِ الروماني .. إنّه محبةُ بحرِنا الكنعاني الذي يوصِلُنا الى كلِّ بقاعِ الدنيا .
كنا قد أشرنا آنفًا الى ثقة هاني بعل بكتاباتِ صبحي فحماوي ، وهذا يمثّلُ في كلامِ هاني بعل لصبحي فحماوي في حوارهما في «حُلُمهِ الثالث» وهو يخاطبُهُ قائلًا :
«صرتُ اعرفُكَ يا صبحي
فحماوي وأثقُ بكَ كلَّ الثقةِ ، صرتَ ظلّي وحاملَ بيرقي وكاتبَ روايتي لقرائِكَ المنتمينَ للوطن العربي الكنعاني الأصل والفصل ، أو أنني صرتُ ظلَكَ وهاجسَكَ بعد هذا الزمنِ الطويل ، واعتقدُ أنْ زيارتي لكَ ستكونُ سببًا في نقلِ أفكاري ونشرَ سيرتي في احدى رواياتِكَ التي يقرؤها أهلُ عصرِكَ ؛ لهذا أتيتُ أطلِعُكَ على حقيقةِ هؤلاءِ الرومان المُلَفّحين بالعِرق الكلتيِّ والعِرق الآري وباقي أعراقِ القادمينَ من بلاد الصقيع الى بلاد الدفء» .
وفي هذا الحوار تبرزُ أهميةُ مهمةِ الكاتبِ صبحي فحماوي بالنسبةِ الى هاني بعل في التعريفِ بأفكارِهِ وسيرتهِ على مدار التاريخ ، كما أنّهُ في هذا الحوار يُفَسِّر هاني بعل تَمَسُّكَ الرومان بمصالحِهم الماديةِ ، فهم في نظرهِ ينتمون الى عروقٍ متعددةٍ ومتنوعةٍ من حيثُ اصولِهم ومنبتِهم .
من المهمِ أن نشيرَ الى أنّ الكاتبَ قد بدأ روايتَهُ بطريقةِ السردِ الاستهلالي ، ثم أخذَ فيما بعد بالتحوّلِ الى سردِ الأحداثِ على لسانِ الحكواتي ، متنقلًا بين الأسلوبينِ بمهارةٍ وبراعةٍ ملموسةٍ دون أنْ ننسى أنَّ البطلَ «هاني بعل» قد شاركَ في دورِ البطولةِ حينَ تطلّبَ الأمرُ منهُ ذلك .
وتخبرُنا الروايةُ في ختامِها عن المصيرِ المأساوي لهاني بعل الذي كان يأبى الإذلالَ والخنوعَ ، فبعدَ أنْ غادرَ قرطاجنة ولجأَ الى حاكمِ انطاكية المُعادي للرومان ، وبعدَ قيام هاني بعل بالهربِ من مطاردةِ الرومانِ بانتقالهِ من مكانٍ الى آخر ، أقدمَ على وضعِ السُّم الذي كان يخبئُهُ منذُ أمدٍ طويل في جوهرةٍ مُعلّقةٍ في عُنقهِ ، في كأسِ خمرٍ ، مفضّلًا الموتَ على أن يُسَلِّمَ نفسَه للرومان .
واخيرًا يتبادر الى الأذهان التساؤل عن سببِ عدمِ دخولِ هاني بعل روما حيثُ يعودُ ذلك الى أنَّ الحكومةَ القرطاجية مُجَسَّدةٌ بمجلسِ الشيوخِ فيها بالإضافة الى قبيلةِ (هانو) التي ليستْ على وفاقٍ مع قبيلتِهِ ، (قبيلةِ البرق) ، قد خذلاَهُ ، فقد اعتبراهُ متهورًا ومغامرًا رغم كونهِ يدافعُ عنهُم حمايةً لهم من مطامعِ الرومان . فقد كانت الحكومةُ القرطاجية ومجلسِ شيوخها وقبيلةِ هانو يمثلّونَ حبَّ الذاتِ وحبَّ المالِ دونَ اكتراثِهم بالدفاعِ عن الوطنِ ونصرِته . وكلُّ ذلكَ يمثّلُ ويرمزُ الى المصالحِ الضيقةِ والصراعاتِ الداخليةِ والقبليةِ ، وعدمِ الوحدةِ في المجتمع الواحد ، وهذا ما يمكن اعتبارهُ كنايةً (allegory) عمّا نلمسهُ في العديد من المجتمعات على مدى العصور ، وبخاصةٍ في عصرنا الحاضر على مختلف الصُعد : سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا لاسيما السياسي منها حيث لا يؤخذ في الكثير من الحالات والأمثلة ما يعود على الشعب بالخير والكرامة والحرية والازدهار لفقدان الوحدة وللتدخّلات الأجنبية والعوامل الهدّامة باختلاف وتنوّع ممارساتها . وكل ذلك يؤدي الى انعدام مواجهة القهر والاستعباد والاستغلال والسيطرة الأجنبية بالقدر الكافي . وهنا يتّضح أنه باتّباعنا المنهج التفكيكي deconstruction في النسق الداخلي للنص ، أي خلخلة وتفكيك لكل المعاني التي تستمدُ منشأَها من اللوغوس ، وبالخصوص معنى الحقيقة ، فإنّ التفكيكية هنا هي تجاوزٌ للمدلولاتِ الثابتةِ عن طريقِ الخلخلةِ واللعبِ الحرِّ للكلمات ؛ لأنها : تقوِّضُ النصَ بأنْ تبحثَ في داخلِهِ ما لم يقلْهُ بشكلٍ صريح واضح ، فهي عمليةُ تعريةٍ للنص ، فروما في هذه الرواية يتم تصويرُها كرمز للشرور (symbol of evils) ، وكذلك كونُها رمزًا للاستعمار ، وبالأخص الاستعمار الأوروبي (European Colonialism) على بلاد العرب وغيرها من البلدان ؛ وبما أنّ التفكيكية بهذا المفهوم هي تفتيتٌ لشفراتِ النص الى اجزائهِ المكونةِ ، فإنّهُ يجوزُ القولُ والافتراض تحليليًا أنّ روما قد ترمز هنا أيضًا الى العولمة (globalization) التي تُوصَفُ ويقال عنها إنّها لا تعودُ بالخير على ثقافات البلدان المحلية .
وهكذا تنتهي الروايةُ موحيةً بهذه الرؤى والمعاني كما يلي :
«الرواية لم تتم ، لأنَّ الرومان واصلوا اكتساح العالم ، وتدمير كلِّ حضاراتهِ ، واستجلاب كلِّ ثرواتهِ ، لتكون كلُّ الطرقِ تؤدي الى روما» .
وخلاصةُ القول إنَّ هذه الرواية قد تستهوي الكثيرين من القرّاء لتاريخيتها وفرادتها، بينما قد يجدُ البعضُ غرابةً في الأسلوب السردي نظرًا لتداخلِ الشخصيات من الرواةِ الساردين مما لم يألفْهُ العديدُ من المتلقين ، فالرواية ليست تقليديةً في أسلوبها ، بل إنّ فيها شيئًا ملحوظًا من النزعةِ الحداثيةِ في التركيب السردي الذي لمسناهُ في أجواء الرواية ؛ وبالإجمال ، فإنّه يمكننا القول إنّ كاتبَ الرواية يتمتع بقدرةٍ فائقةٍ لافتةٍ على عرض أفكارهِ ومقاصدهِ بشكلٍ شفافٍ ، مطوِّعًا اللغة بمهنيّة ملموسة تتفّق ومقتضياتِ الأحداث والمعاني الرمزية والكنائية المستوحاة من الرواية بكل ما تحملُهُ من الدلالاتِ فيما وراء النص .
فللكاتب أجمل التحيات واطيب التمنيات بدوام التوفيق والعطاء .
(من الجدير بالتنويه أن هذه المداخلة قد أُلقيت في نادي حيفا الثقافي يوم الخميس 2023126 حيث أُديرت الندوة بعرافة الاديبة والشاعرة خالدية أبو جبل التي أجادت في التقديم وتميّزت بحضور لافت مُتسّم بالوقار والثقة بالنفس وحُسن اللغة والإلقاء) .