(إلى روحِ ولاء بصل جدعون التي فارقتْنا يوم الجمعة 10/3/2023، بعدَ عامٍ مريرٍ منً الصّراعِ العنيدِ معَ المرضِ، روحِ ولاءَ الباقيةِ في زوجِها نادر، وأبنائِها حبيب ونسيب، ووالدتِها سهام، وإخوتها: ميخائيل، بشرى، سلام ومنال؛ وفي أقربائها وأصدقائها ومحبّيها الكثر)
أيُّها المعزّونَ، أيُّها الأحبّةُ، أيُّها الأصدقاءُ!
لو كنتُ أعلمُ حينَها بمجيئِكَ لما ذهبْتُ إلى العملِ هاشًّا باشًّا بنشاطِ الصّباحِ، واندفاعِ شعاعِ شمسِ الصّلاحِ، ولما سِرْتُ كسريانِ الدّفءِ في العروقِ، ولما أَمسَكْتُ بغُرَّةِ نهاري كما يَقبضُ الطّفلُ على لعبتِهِ الأولى بأطرافِ أناملِهِ الغَضّةِ، ولما لبستُ ثوبَ آذارَ المُلوّنَ ببهاءِ البرقوقِ وسحرِ النّرجسِ وسناءِ عصا الرّاعي، ولما ابتسمتُ ليومي كما ابتسمَ العاشقُ سرًّا مفضوحًا عندَ ذكرِ اسمِ محبوبتِه أمامَ عتبةِ قلبِهِ المفتوحِ على مصراعيهِ.
لو كنتُ أعلمُ بحضورِكَ كنتُ ذهبتُ إلى سهلِ البلدِ لأكحّلَ عينيَّ بخضرةِ الزّيتونِ، لينعكسَ فيها خَضارُهُ واخضرارُهُ، وكنتُ نشرتُ شَعري على بريقِ شعاعِ شمسِهِ وجَدَلتُهُ بخيوطِ الذّهبِ اللّامعةِ كشعرِكِ، وكنتُ أَبكرْتُ في صَحوَتي لأملأَ صدري بسكينةِ الفجرِ المُنبلجِ من رحمِ هدوئِكِ، وكنتُ استعضْتُ عن شفتيَّ بحبّةِ كرزٍ أقطفُها من حُمرةِ ثغرِكِ؛ لكي يشتبهَ الأمرُ على الموتِ، ويفقدَ يقينَهُ وصوابَهُ وطريقَهُ إليكِ، يا ولاءُ.
ما زلْنا نتلذّذُ بطعمِ "القراصيا" في حاكورة الحارةِ جنبَ بيتِكم، ونُسارعُ إلى قطفِ المِشمِشِ، قبل انقضاءِ "الجُمعةِ المِشمشّيّة" في حاكورةِ الحارةِ خلفَ بيتِنا. وما زالتِ الأرجوحةُ تلوحُ بِنا تحتَ شجرةِ الجوزِ العاليةِ التي تغمرُنا بظلالِ أغصانِها كما غمرتْنا الطّفولةُ بأجنحةِ براءتِها. وما زالتْ كتبُ المدرسةِ تَهجأُ حروفَنا مُتلعثمةً في اندفاعِها المُتباطئِ متعانقةً في أوّلِ الطّريقِ، متنافرةً في وسطِها، صامتةً عندَ بلوغِها نهايةَ السَّفَر.
قولي يا ولاءُ، إنَّ الزّمنَ قد أثقلَهُ الفرحُ آنذاكَ، فلم يَعدْ يَقوى على حَملِهِ ومواصلةِ الطّريقِ، فتوقّف هناك، حيثُ أغمضتُ عينيَّ على جذعِ شجرةِ الخوخِ، وعددتُ للعَشرةِ، فاختبأتِ، وعندما فتحتُ عينيّ لم أرَكِ، اكتشفتُ مخابئَ أولادِ الحارةِ كلِّهم، إلّاكِ، أَعطِني إشارةً يا ولاءُ لأتعقّبَ أَثَرَكِ، وتنتهيَ لعبةُ "الغمّيضة"، ونبدأَ اللّعبةَ من جديدٍ؛ هلْ نحنُ غارقونَ في تلكَ البراءةِ، هلْ ما زلتُ أبحثُ عنكِ هناكَ، في أيِّ زمنٍ نحنُ يا ولاءُ؟!
أيُّ حُلمٍ انقضى، وأيُّ ليلٍ مَضى نسيَكِ نائمةً في عتمتِهِ واستفاقَ مُتثائبًا ناسيًا أَنْ يَتحسّسَ شَعراتِهِ السّودَ في اللّيلِ والشّقِراتِ في النّهارِ، كما يفعلُ قُبيلَ الفجرِ، في كلِّ يومٍ جديدٍ، ليعلمَ أنّه فقدَ غُرّتَه التي جمّلتْ وجهَهُ؟! مسكينٌ هذا اللّيلُ، لا يعلمُ فداحةَ خسارتِهِ، لقد فَقَدَ غُرّةَ الهلالِ وأمسى مُدْلَهِمًّا مُوحِشًا ...
ولاءُ كعكُ العيدِ الذي نُعِدُّهُ للفصحِ المجيدِ، ذلكَ الذي أكلناهُ على عَجَلِ الطّفولةِ لئلّا يَشغلَنا عن خطوةٍ أو قفزةٍ أو ضحكةٍ أو نظرةٍ أو نصفِ كلمةٍ. ولاءُ كعكُ العيدِ الذي لنْ نُعدَّهُ هذا الفصحَ الجديدَ، لئلّا يختلطَ بدموعِ كهولتِنا المتأنّيةِ، على مَهلِها واقفةٌ متجهّمةٌ، تتأمّلُ سيرَها وسطَ الأحبّةِ وهم يَسقطونَ دُرّةً فَدُرَّةً.
ولاءُ حيّةٌ في الذّاكرةِ، بلْ هي ذاكرتُنا الحيّةُ، وَلْيَسقطْ ما عداها من ثقوبِها. ولاءُ الماضي الذي يزهو في جمالِ الحاضرِ، والحاضرُ الذي يتوقُ إلى ماضيهِ الجميلِ. ولاءُ حُسنُ الجيرةِ، ووفاءُ الصّداقةِ، وعهدُ "العيش والملح" المحفوظُ بينَ الكِرامِ. ولاءُ ابتسامةُ الصُّبحِ المتجدّدةُ، عندما يحتضنُ، بكلِّ الحُبِّ، شعاعَ الشّمسِ. ولاءُ ضحكةُ المساءِ المتيقّنةُ عندَ ظهورِ غُرّةِ الهلالِ المُتلألِئةِ. لذا، لا تقولوا أيُّها الأحبّةُ، لا تقولوا: ماتتْ ولاءُ، لئلّا يحزنَ الصُّبحُ وينتحبَ المساءُ!
إياد الحاج
كفرياسيف
10/3/2023