حكمة الصوفية وتشعباتها بقلم: الدكتور منير توما
17/05/2024 - 05:51:02 am

حكمة الصوفية وتشعباتها

بقلم: الدكتور منير توما

كفرياسيف

إنّ من صفات مذهب الصوفية تميّزها بالمركزية والعمق بالإضافة الى الغموض والتشدّد. ومعروف عن الصوفيين أنهم يقيمون توازنًا بين النفس باهوائها، والروح بسموها، وهم يبنون حياتهم على اليقين ويتبعون سلوكًا مُتقَشفًا خشنًا، واهتمامهم مرتكز على "المطلق" و "اللانهائي"، فهناك اتحاد لقلوب الصوفيين مع الله وامتزاج مشاعرهم بالحب الإلهي من خلال انعكاس نور الصوفي الداخلي لينير ما في روحه من ظُلمة ويتجرّد من الأهواء والرغبات في هذه الدنيا.

إنّ الغاية النهائية للصوفية هي الطهارة والقداسة حيث أنّ المثالية الإلهية تنبع من صفتين اثنتين هما العظمة والجمال، وبالتالي، فإنّ الصوفية بمنظور الصوفيين هي التي تتضمن وتحتوي هذا النوع من المثالية.

من المهم الإشارة الى أنّ طريق الصوفية هو ليس الانسحاب من الدنيا بل البحث عن الإله، وفي الوقت نفسه البقاء مهتمًا بالدنيا، وهذا الاهتمام بالدنيا يؤدي الى النماء الروحي مما يوفر فرصًا لتطبيق الحب، الوعي، الأريحية وغيرها من الخصائص الصوفية.

إنَّ الحب، والشفقة، والخدمة في المبدأ الصوفي تفتح القلوب للاقتراب من الله، وتساعد الذين يعانون من محن الحياة بالكلمة الطيبة أو النظرة اللطيفة التي تشهد برهافة ولين القلب، فحكمة القلب تختلف عن حكمة الرأس، فالرأس قد ينخدع بالمظاهر، أما القلب الحكيم فهو أكثر عمقًا للوصول الى جوهر الحقيقة دون أن تضلله المظاهر الخارجية، وكما جاء في قول أحدهم أنّ "الصوفي غائب عن نفسه، حاضر مع الله".

وفي هذا السياق يقول أحد كبار الصوفيين شهاب الدين السهروردي: "إنّ خرج الكلام من القلب، سيدخل القلب، لكن إن جاء من اللسان لن يتجاوز الأذن".

ومن منظور الصوفيين، إنَّ هذا العالم يمكن أن يكون جنّة إذا أحبّ الناس بعضهم بعضًا واصبحوا أدوات خلاص لبعضهم. كذلك يرى الصوفيون أنّ هذا العالم يمكن أن يكون جحيمًا يعيش الناس فيه فقدان الحب، معاناة الألم، الخيانة وانعدام الرعاية. وبذلك فإنّ هذين الشكلين للعالم هما جزء من التدبير الإلهي، فهناك الفردوس الذي نسعد فيه في هذا العالم، وفي هذا العالم الجحيم أيضًا الذي يتعذب فيه الإنسان بنيرانهِ.

ويقول الصوفيون إنّ كل شيء في هذا العالم يذكّرنا بالله باعتباره الفنّان الأعلى الذي يذكّرنا بوجودهِ جمال العالم كله بأنّ نحيا الحب بكافة أشكاله وصوره، حيث يلتقط الصوفي انعكاس السماء خلال الحياة بوضوح وبلا ضبابية في مرآة ذاتهِ.

يُعَرِّف أحد الصوفيين الكبار أنَّ الحب هو أن ترى الخير والجمال في كل شيء. وهو أن تتعلم من كل شيء. أن ترى نَعم الله وكرم الله في كل شيء، وتكون شاكرًا بامتنان لعطاء الله دائمًا. وهذه هي أولى الخطوات على طريق حبك لله.

في قصيدة لكبير الصوفيين جلال الدين الرومي (1207 – 1273م) تتجلّى هذه المعاني حيث يقول فيها:

لا خلاص للروح

إلّا بالوقوع في الحب

إذ عليها أن تزحف وتحبو

بين المحبين أولًا

المحبون وحدهم يمكن أن ينجوا

في الدنيا والآخرة.

ذلك ما كتب في كتاب الخلق

بالقلب فقط

يمكنك أن تبلغ السماء

ووردة البهاء

لا تنمو الّا في القلب

ومن الجدير بالذكر أنّ المذاهب الصوفية في القرن الثالث الهجري تدين للصوفي المشهور في تاريخ التصوف الإسلامي الحلّاج الحسين بن منصور (858 – 922م) الذي كان متصوفًا، وشاعرًا ومدرّسًا للتصوف – تدين له بأكثر من تنظيمها في مرحلة سُميّت " فلسفة التصوّف"، فقد تناول الحلاج مسألة "الحب الإلهي" بحرارة شديدة لم يتكلم بمثلها صوفيو عصره، فهو يتكلّم عن عنصر لاهوتي وآخر ناسوتي يتم بينهما الاتحاد، فهو يتناول طبيعة هذا الإتحاد؛ فيتكلم عما اذا كان فيه امتزاج بين العناصر أم أنّ هذا الاتحاد يتم في حين يبقى كل من عنصريهِ محتفظًا بماهيتهِ، وكان الحلاج يرى أن مسألة الاتحاد يمكن أن تتسع دائرتها فتكون بين محبّ ومحبوب ولو كانا إنسانيين. وهنا يتضح أنّ الحلاج متأثر في ذلك بالمسيحية التي اختلفت فرقها حول طبيعة اتحاد العنصرين اللاهوتي والناسوتي في المسيح.

ومن زاوية أخرى، يعتبر الحلّاج أول مَن قال بوحدة الأديان من صوفية المسلمين، فهو يرى أنّ هذه الأديان رغم اختلافها ظاهريًا، فإنّها متفقة بحسب الحقيقة، لأنها تتمحور حول حقيقة واحدة.

لقد كان القرن الثالث الهجري يمتاز بقوة الحركة الصوفية، حتى أنّ الكثيرين يعتبرون هذا القرن بمثابة "مرحلة الشباب" بالنسبة للتصوّف الإسلامي، ويعزو البعض أنّ من أسباب قوة الحركة الصوفية في هذا القرن يعود إلى طغيان النفوذ الأجنبي فيه على الحياة الإسلامية حيث بدأت آثار النفوذ الأجنبي في الظهور منذ منتصف القرن الثالث الهجري. وقد ظلّت الصلة التقليدية بين زهّاد المسلمين والمسيحية كما هي في هذا القرن؛ فاتصل الصوفيون بالرهبان اتصال سلفهم بهم، وتبادلوا الكلام في الدنيا، والنفس، والمجاهدة، والرياضة. وقد نقل صوفية المسلمين عن المسيح فيما نقلوا نصوصًا من الحب الإلهي تحبذه وتحثّ عليه، وتجعل من مجرد العبادة خوفًا من النار أو طمعًا في الجنة مستوى أدنى من العلاقة السامية التي يجب ان يسير الناس جميعًا عليها؛ فالحياة الصوفية تهدف الى الاتصال بالله، أو بالعوالم الأخرى التي لا يمكن الاتصال بها في الأحوال العادية، ويتعاون الجانبان الذوقي الروحي والعملي في سبيل الوصول الى هذا الهدف. وفي التصوف الإسلامي تعتبر حالة "الفناء" هدفًا لكل صوفي. وقد يبلغ فناء الصوفي في درجة يشعر فيها باتحادهِ بربّهِ، أي أنّه يحسّ بأنه هو والله أصبحا شيئًا واحدًا، بل قد يشعر بعضهم بأنّ كل شيء في الوجود قد اتحّد بالله، فالله بذلك قد احتوى كل شيء في وجودهِ، وليس لشيء في العالم وجود بنفسِه، وانما موجود بالله.

وبالعودة الى الحلّاج وعلاقة الحب بين المخلوق وبين الخالق، فإنّ شعر الحلّاج يعتبر تعبيرًا رقيقًا وقويًا عن الشوق الصوفي، وكانت أحب الرموز إليهِ كأس الخمر والهلال، وكأس السعادة الصوفية المسكر، والمرأة العذراء، وطائر الروح، وما شابه ذلك. ويمكن أن نفهم من هذه الأشعار ما كان يقصده الحلّاج حين يقول إنّ الله موجود في كل شيء حتى لو لم يره الناس لبكمهم وصممهم وحيوانيتهم، لكنه يتساءل:

وأي الأرض تخلو منك حتى

تعالوا يطلبونك في السماء

تراهم ينظرون إليك جهرا

وهم لا يبصرون من العماء    

وهو يدرك:

ولا هممت بشرب الماء من عطش

إلّا رأيت خيالًا منكَ في الكأسِ

لأنه:   

أنتَ بينَ الشغافِ والقلب تجري

مثل جري الدموع في أجفاني

إنّ علاقة الحب بين المخلوق والخالق إنما يتحقق فيها الحب بالمعاناة، فالإنسان يتحد مع الإرادة الإلهية اذا ما قبل المكابدة واشتاق اليها: "الحزن هو ذاته والفرح من ذاتهِ".

واخيرًا وليس آخرًا، فإنّه لا بد أن نتطرق الى صوفية الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي (1164-1240م) الذي ترتبط فلسفته في عمومها بمصطلح "وحدة الوجود". ووحدة الوجود تتضح عند ابن عربي عندما يقول إنّ غاية الحب هو معرفة الحب معرفة حقيقية، وإن حقيقة الحب تتطابق مع الذات الإلهية. إنّ الحب ليس قيمة مجردة تضاف الى الذات. إنها ليست علاقة محب بمحبوب. وهذا يتماهى مع الحب الحقيقي عند الغنوصيين أصحاب مذهب العرفان وهو الاعتقاد بأن البشر يحتوون على نصيب من الله – (الخير الأسمى أو الشرارة الإلهية) داخل أنفسهم:

إذا بدا لي حبيبي فبأي عين أراه

بعينهِ لا بعيني فغيره لا أحد يراه

وهكذا فإنّ ابن عربي يرى وحي الله في الوجود الخالص "العماء" في عالم المخلوقات. يضاف الى ذلك أنّ ابن عربي قد وُصِفَ بأنه محامي التسامح الديني كما تشير الى ذلك أبياته الشعرية التي يقول فيها:

لقد صار قلبي قابلًا لكلِّ صورةٍ

فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ

وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ

والواح توراةٍ ومصحف قرآنِ

أدين بدين الحب أنّى توجهتْ

ركائبه فالحب ديني وإيماني

وعند هذه النقطة يجب التنويه أنّ عمل محي الدين بن عربي قد تعرّض لعدة انتقادات، ويعتقد أن السبب في ذلك يعود الى أن انتاجه يشتمل في الواقع على عناصر كثيرة: سنيّة، شيعيّة، وغنوصية وهيلينية، يهودية ومسيحية، وزرادشتية. وهذا التعقيد يفوق تعقيد الحلّاج الذي كان يرى في المكابدة معنى ايجابيًا يتعلم منه الإنسان أنّ "العشق" أساس الذات الإلهية وسر الخلق، وكلمة "عشق" تعني "وله الحب العارم"، وتعني عند الحلاج الحب الإلهي التلقائي. وكل ذلك يُبيّن أنّ غاية الصوفي التي يهفو الى بلوغها بالتأمل المستمر هي الفناء، وما يتبعه من البقاء في الله مما يؤدي به لحسال تعرف بحال الوجد (ecstasy)  بمعنى إيجاد الله والوصول الى السكينة في ذلك الوجد.

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق