(إلى روح الكاتب خالد صالح علي، الخالد بما تركه لنا في 23/6/2024، مُعلِّمًا المحبّةَ درسًا في العطاء)
في اليوم الثّاني لبداية صيف هذا العام، هذا الصّيف المُشتعل اللّاهب الّذي ينوء برائحة الدّم الّذي تسفكه روح الجريمة، المتفشّية في رأس الهرم، وفي قاعدته؛ اعتزل خالد الحياة، بعد أن قضى معنا الرّبيع كاملًا، فكانَ من سحر ألوانه، ومن طيب عطره، ومن صفاء طبعه ومزاجه؛ كان خالد كالفراشة في أجمل حدائقنا، وهو مجبول بلينها وعجيب ألوانها وعميق صمتها.
خالد الإنسان المُرهف الّذي أغرى العالم بالحضور إليه، دون حاجة لأن يتخطّى العتبة، فكان خالد عتبة العالَم، لن نفهم النّصّ دون أن نفهم العنوان الخالد. تبعث عيناك شعاعًا ينشر الدّفء والهدوء والطّمأنينة وراحة النّفس. أمّا كلامك فينشر الحكمة، والتّعقل، والتّروّي، والحِلْم، قبل أن ينشر المعرفة والثّقافة والأدب.
خالد المربّي تسبق أخلاقه خطاه، وتصل مروءته القصد قبل أن تبلغه قدماه، ويُزيّن طلعته بهاء قيمه فتزداد هامته علوًّا وقامته ارتفاعًا. يا صديق أبنائك، ويا زميل أصدقائك، وصديق زملائك، يا رفيق المعرفة، ويا عارف الرّفاق، يا مصدر الإشعاع دون أن تعلو رؤوس الحاضرين والغائبين، الواقفين والجالسين، والنّائمين حتّى صباح الغد، أو حتّى صباح القيامة.
خالد الأديب الرّفيع بتواضعه، تضيق صفحات الكتاب بفيضه، ويتحوّل الكلام عجينًا يختمر في ذهنه، وتفوح رائحة خبزه في تنّور سرده، وتحمل النّسائم نكهته تختزل حقول القمح، ومناجل الحصّادين، وأنفاس الجدّات وهن يطحنّه، يد تقبض على حفنة قمح، ويد تدير "الجاروشة"، وموّال يصدح في فضاء القرية الوادعة. قصص تحكي حكايتنا، ما أن تشرع بالقراءة حتّى تنتبه إلى نهاية الكتاب، برمشة عين، دون أن تنتهي الحكاية.
خالد يؤثر الجوهر وينأى عن المظهر، قلّما يعتلي المنصّة، لكنّه حين يفعل يفيض تواضعًا، ويقطر ظرافة، ويسيل خفّة ظلّ، ويُمتعنا أدبًا سهلًا ممتنعًا، محبّبًا للنّفس، مرسومًا بألوان الفراشة، تنتقل من زهرة أخّاذة إلى أختها السّاحرة. فاعذرني أيّها الأديب المتواضع، فلم تتوفّر لي فرصة مدحك في حياتك، اعذرني لأنّني أصعدتك على المنصّة رغمًا عنك، وتركتك فوقها وحيدًا الآن، ونظمت قصيدتي حولك، وصفّق لك الجمهور بحرارة المُحبّ الّذي لم يهنأ من قبل بلحظة البوح بخالص المحبّة والتّقدير والاحترام والاعتزاز والفخر والتّكريم.
حملت جمال سوريا في قلبك، وحضرت منها حين نزلت بنا النّكبة، فأقفرت رحابنا من أعزّ الأقرباء والأصدقاء والمحبّين، وتقطّعت أوصال العائلة والمجتمع والشّعب والوطن، فعانيت معنا ما عانيت، ولم تنكسر كما انكسر "جلمود صخر حطّه السّيل من عل"، وزرعت الطّريق بالأمل، وأنت تمشي حافيًا على البلّان، تدمى قدماك، وتشعّ عيناك بالتّفاؤل؛ وتغرف كفّاك من جمال سوريا في قلبك وتسكبه في طرقات فلسطين، فالأختان من بيت الشّام العريق، كريم الأصل والأخلاق، عظيم الشّأن دائم الإشراق.
تركت لنا أبناءك البررة: أميّة، معاوية وميسلون نكحّل عيوننا بهم، ونعطّر أنفسنا بحضورهم، ونحمي مجتمعنا بوجودهم، منحتنا قصصك الجميلة، وسيرتك الذّاتية الثّريّة، وأعطيتنا مسيرتك الاجتماعيّة الطّيّبة تعلو إلى عالم النّجوم وتضيء في اللّيلة الظّلماء؛ أبقيت كلّ ذلك، فما بقي غير الجسد المريض لتمضي به إلى المجهول، فتغار منك المحبّة لأنّك أبقيت أكثر مما أبقت، ولأنّك لم تبق لنفسك أكثر ممّا لم تبق هي، وفي بداية صيفنا القائظ الجافّ انسحبت الفراشة من عالمنا بهدوء ناسية أن تموت.
المعتزّ بك
إياد الحاج
كفرياسيف - 24/6/2024