أحب عنصر الكربون لروعته قلبًا وقالبًا! فأينما وجدت الحياة كان له دوره المميز في تركيبة الأغلبية الساحقة للمواد المهمة لبُنيتنا وصفاتنا! ضف إلى ذلك إبداعه بأشكاله الغريبة والجميلة كالكروي والأنبوبي وغيرها نتيجة لتكوينه مواد تختلف في تركيبتها البلورية رغم كونها من نفس العنصر. وقد منح المكتشفين نتيجة اكتشافهم شكله الكروي ومادة الغرافين-والتي تسمى ايضًا قرص العسل- جائزة نوبل في الكيمياء لعام ١٩٩٦ والفيزياء لعام ٢٠١٠. ولعل أجمل اشكاله وأقواها هو الماس-احد اروع الأحجار الكريمة على الإطلاق .والمميز ايضًا بهذا الشكل انه ينتج تحت الضغط والحرارة العاليين في أعماق الكرة الأرضية وداخل الحمم البركانية . وتكوين الماس يذكرني بنوعية عملي خلال فترات معينه لما فيها من ضغط هائل لكنها تكون أحيانا الأفضل من حيث الإبداع الفكري!
إن إدارة مختبر كمختبري والذي يضم ١٢-١٤ باحثًا يضعك أمام تحديات هائلة كالحاجة إلى تجنيد مبالغ طائلة سنويًا. ولمحاولة تأمين ذلك وكغيري من العلماء، أوثق أفكاري بصورة اقتراحات علمية لتكون من ضمن عشرات الاقتراحات التي تصل إلى المؤسسات المختلفة المكلفة في دعم الأبحاث الاكاديمية. وتُقَيَّم هذه الاقتراحات بشكل مهني وسري للغاية من قبل لجنة من العلماء الذين يقومون بتدريجها حسب عوامل عدة كالإبداع ومدى أهميتها. ومن أجل استمرار مسيرتي الأكاديمية بزخمها الحالي اضطررت في الفترة القصيرة الماضية لأن أضع ست اطروحات مسهبة - كل منها تعرض فكرة جديدة مبنية على قراءات علمية عديدة، تجربتي ومعرفتي في مجال بحثي وتحدٍ للذات! كما أن خلال هذه الفترة أربعة من طلابي وثقوا أطروحاتهم للامتحان الأولي والمصيري في مرحلة الدكتوراة. وخامسهم أنهى أطروحة الدكتوراة ! وكوني مرشدهم العلمي توجب علي أن أفحص جميع هذه الاطروحات عدة مرات لصقلها من جميع الجوانب وليتم تحضيرها بشكلها المثالي للجنة المختصة.
الإرهاق والضغط الهائلان كانا من ميزات هذه الفترة التي لم تخلُ للحظة من التحديات بحيث أكاد لا اصدق أنها ولّت. لكن رغم كل ذلك ورغم حرارة الصيف المقيتة كان عليك أن تبقى في حالة تركيز تام ونشوة في الإبداع الفكري! ورغم تشابك الأمور والأفكار كبركان تنصهر به الصخور لا مجال لك إلا ان تحافظ على برودة أعصابك كبرودة الثلج حتى تستطيع ان تُقَيّم وتُرتب بشكل سليم هذه الأفكار، كما تُرتب الطبيعة بدقة ذرات الكربون في الماس! وكذلك لئلا تقع ايضًا في فخ الإعجاب الزائد بأفكارك حين توثقها فتنهار لاحقًا عند اصحاب الفكر كانهيار ذرات الكربون في الفحم الخشبي الأسود الذي لا جمال له او قيمة تستحق الذكر. كذلك لتدير حياتك الشخصية باتزان وبسعادة قدر المستطاع. لكن بغض النظر عن القرارات التي ستتخذ بشأن دعم هذه المقترحات، أعتقد أن افكارًا بجمال الماس قد نتجت، نرى الآن بوادر أولية لنجاح قسم منها في قارورات المختبر. ولا شك أنها ستشغل فريق بحثي في السنوات العديدة القادمة محاولين ترجمة معظمها إلى واقعية لزيادة في العلم والمعرفة.
فحين تواجه أعظم الضغوطات تذكر عنصر الكربون وكيف عند ضغطه بقوة ينتج أجمل ما به.
تحياتي إلى محبي الفكر والإبداع.
بروفيسور أشرف إبريق
عالم وباحث في مجال الكيمياء
معهد التخنيون- حيفا
*اللوحه الفنية المرفقة "درب الآلام" هي من أعمال الفنان القدير عبد عابدي.